عطر كيلوباترا - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 10:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عطر كيلوباترا

نشر فى : السبت 13 مايو 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 13 مايو 2023 - 8:15 م

بعيدا عن اللغط الذى أثير حول أصل وفصل كيلوباترا أخيرا بسبب فيلم وثائقى تبثه شبكة «نتفليكس»، ومزاعم حركة «الأفروسنتريزم» أو «المركزية الأفريقية» التى تحاول تغيير بعض الحقائق التاريخية، توقفت كثيرا عند أسطورة هذه الملكة البطلمية ذات الجذور المقدونية، وكيف تكونت صورتها التى وصلت إلينا وألهمت العديد من المبدعين، من خلال البروباجندا والبروباجندا المضادة.
تذهب إلى مرسى مطروح فتزور شاطئ كيلوباترا حيث كانت تستجم مع حبيبها أنطونيوس، وسط تشكيل صخرى مغلق من الجانبين ومن أعلى، تتجدد فيه المياه مع حركة الأمواج. تجد دائما من يحكى لك عن قصرها المنيف الذى كان يطل على البحر شمال غرب المدينة، وعن حمامها الشهير واستخدامها للبن الحمير فى وصفات مختلفة، للجسم والوجه، كى تحافظ على جمال بشرتها ونضارتها. يُحكى ضمن ما يُحكى أنه كان لديها 700 حمارة تمدها باللبن الذى يشبه فى تكوينه لبن الرضاعة عند البشر، وأنها اكتشفت خواصه السحرية عندما قضت سنتين فى روما وعرفت من النساء هناك فوائده فيما يتعلق بالترطيب والتخلص من التجاعيد والجلد الميت وآثار الحساسية. قيل إنها دونت بنفسها بعض هذه الوصفات على ورق البردى: زيت الآس لتطويل الشعر، وقشر الجوز لصبغه، ولبن الحمير المخلوط بالعسل للبشرة، وزيت الخروع لإزالة مساحيق التجميل، إلى ما غير ذلك.
وعندما تصل إلى سيوة ينصحك الناس بالسباحة فى عين كيلوباترا الطبيعية، على مسافة 750 كم من القاهرة، وتستمر بالطبع الروايات حول هذه العين الساخنة المحاطة بأشجار النخيل والتى ورد ذكرها فى كتابات هيرودوت حين تحدث عن إقامتها القصيرة فى الواحة. ثم عند مرورك بموقع مدينة ثيموس القديمة، وتسمى تل التيماى حاليا، شرق الدلتا، يُحدثك أحدهم عن بقايا العطر الذى عثَر عليه، سنة 2012، اثنان من علماء الآثار الأمريكان داخل قارورة خلال عمليات التنقيب تحت أنقاض بيت يرجع للقرن الثالث قبل الميلاد. رجح هذان الأستاذان اللذان كانا يعملان بجامعة هاواى ــ روبرت ليتمان وجى سيلفرستاين ــ أن يكون المنزل لتاجر مستحضرات تجميل، وأوضحا أنه قد يكون ضمن عطور كيلوباترا، إذ كان شائعا وقتها استخراج الزيوت العطرية من أشجار المُر الصمغية. وبالفعل قام بعض المتخصصين بمحاولة إعادة تصنيع العطر القديم مع إضافة مكونات أخرى طبيعية، وطرحوه على زوار معرض للملكات المصريات نظمه متحف «ناشيونال جيوجرافيك» بواشنطن، عام 2019.
• • •
حاول هؤلاء جذب الجمهور من خلال العطر وأسطورة كيلوباترا التى صنعتها الأيام، كما فعلت شركات تجميل عالمية قبلهم حين روجت لمنتجات وكريمات من لبن الحمير فى منتصف القرن التاسع عشر، معتمدة على شعبية آخر ملوك وملكات البطالمة، وربما اختلقت بالكامل قصة لبن الحمير أو بالغت فيها، بحسب بعض المصادر. فعلوا ما كانت كيلوباترا نفسها تفعله وتجيده حين تركت عطرها يسبقها إلى حيث تذهب لخلق صورة ساحرة لنفسها وتدعيم تأثيرها وحظوتها. كان العطر بالنسبة للكثيرين من معاصريها وسيلة للتفاخر والتمايز الاجتماعى عن طبقة العمال والفلاحين، إلى جانب بالطبع استعمالاته اليومية، وشكل بالنسبة لها طريقا إلى القلوب، وبالأحرى رمزا للسلطة والجاه، فقد كان العطر ضمن الموارد والثروات الهامة كالحرير والبترول لاحقا.
حين أرادت إغواء أنطونيوس مثلا، حرصت على أن تفوح رائحة العطور الفاخرة من موكبها لدى وصولها لساحل مدينة طرسوس التركية عام 41 قبل الميلاد. وذكر الفيلسوف والمؤرخ اليونانى بلوتارك كيف أمرت خدامها أن يشعلوا البخور ويرشوا العطور على سطح المركب التى حملتها إلى المدينة، فيعرف الجميع أن الإلهة الفاتنة تقترب، هكذا كانت الصورة السياسية والاقتصادية التى أرادتها لنفسها وللبلد الذى كبرت فيه وحكمته فى ظروف ليست بالهينة. وبعد ارتباطها بمارك أنطونى أو أنطونيوس طلبت إليه أن يهديها مدينة أريحة فى فلسطين، التى اشتهرت بأشجارها العطرية الفريدة، لكى تسيطر على طرق تجارة العطور والبخور، وتنافس النبطيين الذين برعوا فى هذه التجارة والصناعة، ما أثار حفيظة ملكهم الذى لم يتورع عن حرق أسطولها فى البحر الأحمر بعد هزيمتها لاحقا فى معركة أكتيوم البحرية انتقاما منها، كما لم يغفر لها حاكم الجليل هيرودس الأول أنها سلبته أريحة، وقد كان حليفا أمينا للإمبراطورية الرومانية.
• • •
صنعت مملكة العطر، وكانت مستحضرات التجميل والحمامات المزينة بالورود ضمن أدواتها الاقتصادية. تولت أمور الدولة وهى فى التاسعة عشرة من عمرها وماتت فى ظروف غامضة وهى فى التاسعة والثلاثين. ورثت المُلك عن أبيها، وجاء جدها لاجوس إلى مصر بصحبة الإسكندر الأكبر وكان أحد قواده، ثم تولى حكم إحدى المقاطعات. لم تكن رائعة الجمال كما تشهد بعض العملات والتماثيل، لكنها ذكية ومثقفة. تتقن سبع لغات وتبرع فى الحديث وتقرأ فى السياسة والفلك والرياضيات والفلسفة والأدب وتجيد الرقص والغناء والعزف على الهارب، وتحلم بحضور سياسى قوى وسطوة. وقد كان كل ذلك كفيلا بأن يؤلب العديد من الأطراف ضدها، وبما أنها امرأة، وامرأة خرجت عن المألوف، استغل الفرصة أنصار الإمبراطور الرومانى أغسطس، عدوها اللدود، وكل من كتبوا التاريخ الرسمى بعد مصرعها أمثال هوراس وفيرجيل وتيتوس ليفيوس، وصنعوا دعاية مضادة تركز على صورة الملكة المنحرفة اللعوب.
ساهمت هذه البروباجندا بدورها فى تدعيم أسطورة كيلوباترا عبر العصور، بخلاف ما توقعوا، كما ساعدت على ذلك أيضا الأعمال الأدبية والفنية التى تناولت سيرتها. كان هناك صورة وصورة مضادة، وظفها البعض لأغراض سياسية أحيانا أو تجارية وفنية تشويقية فى أحيان أخرى، لكنهم عرفوا كيف يستخدمونها، بل أجادته كيلوباترا نفسها التى لقت مصرعها سنة 30 قبل الميلاد، فماذا فعلنا نحن؟ لماذا نشوه ما وهبتنا إياه الطبيعة ونهمل عطايا التاريخ؟ وحين ندعى التطوير نُفسد ما لدينا بذوق مريع وغباء مدقع، فنقيم تماثيل مشوهة وجسور غريبة الشكل فى أماكن أثرية وإضاءات بانورامية لا ترقى لمستوى الأفراح الشعبية، لأن هذه الأخيرة تكون عادة أكثر ابتكارا وإبداعا. وقد نالت كيلوباترا من «الحب جانب» بالطبع، فتقريبا لن ينجو أحد.

التعليقات