من غير فلوس يا سرجيوس! - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 3:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من غير فلوس يا سرجيوس!

نشر فى : السبت 13 يناير 2024 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 13 يناير 2024 - 9:05 م
شارع صغير هادئ بمصر الجديدة، لم تغادره أشجاره الخضراء، يحمل اسم القس سرجيوس، أحد أبطال ثورة 1919 الذى ارتبط فى الأذهان بمشهد رأيناه فى الكثير من أفلام الأبيض والأسود، خاصة ثلاثية نجيب محفوظ، والمتظاهرون يرددون «يحيا الهلال مع الصليب». يقع الشارع على بعد خطوات من كنيسة العذراء مريم بأرض الجولف وقد أحاطت بها عناصر الأمن لحمايتها فى فترة الأعياد المسيحية التى تمتد طوال شهر يناير، نمر به فنترحم على روح هذا الكاهن الثائر الذى صادف مولده قدوم قوات الاحتلال البريطانى إلى مصر عام 1882. وكان ذلك علامة ربما على ما سوف ينتظره من كفاح ومسيرة شائكة، فالقمص مرقس سرجيوس ستبقى صورته فى ذاكرة العقل الجمعى المصرى وهو يخطب فى الناس بعمامته السوداء من أعلى منبر الجامع الأزهر أو يتجول فى الشوارع والميادين وإلى جواره كتفا بكتف أحد صديقيه الشيخ محمود أبو العيون أو الشيخ مصطفى القاياتى. نكرر شعارات هو الذى أطلقها قبل أكثر من مائة عام دون أن ندرى أنه صاحب الهتاف مثل «الدين لله والوطن للجميع» و«نموت نموت وتحيا مصر» و«الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، إذ كان خطيبا مفوها يصعب تفريق الجموع من حوله، حتى أن عظاته فى كنيسة الملاك بطوسون (شبرا) قبل رحيله فى سبتمبر 1964 كانت تتسبب فى إرباك حركة المرور لساعات. يعرف كيف لا يجعل الملل يتسرب إلى مستمعيه ويستطيع أن يبكيهم ويضحكهم فى ذات اللحظة، كما وصفه حفيده فى المقابلات التى أجرتها الصحف معه بمناسبة مئوية الثورة.
روى الأستاذ إدوار حلمى جيد، حفيده من ابنته جوزفين، أن جده ولد ثائرا وبدأ بالكنيسة قبل الوطن وليس العكس، ففور خروجه من مدينة جرجا، مسقط رأسه، والتحاقه بكلية اللاهوت أو الكلية الإكليريكية، تزعم أول ثورة طلابية فى مصر عام 1903 لتطوير مكان الإقامة المخصص لهم وكان لديه ملاحظات تتعلق بأساليب التدريس وتجديد الخطاب وبالأحوال الاجتماعية لرجال الدين. قربه منه بعد هذه الواقعة حبيب جرجس، مؤسس مدارس الأحد والكلية الإكليريكية التى يتخرج منها الكهنة والقساوسة الأقباط الأرثوذكس، وبعد تخرجه تم ترسيمه كاهنا فى ملوى ثم انتقل وكيلا لمطرانية أسيوط ومنها إلى القاهرة والخرطوم. فى السودان، دب الخلاف بين أعضاء النادى المصرى وشكل الأقباط كيانا منفصلا باسم «المكتبة القبطية» للتأكيد على انقسام عنصرى الأمة، عندها ألقى القس سرجيوس محاضرة دينية بعنوان «عيشوا بسلام» داعيا إلى التآخى بين المسلمين والمسيحيين ووقوفهم فى وجه المحتل. قام أيضا بتأسيس مجلة «المنارة المرقسية» عام 1912 لخدمة الهدف نفسه وتقويم الاعوجاج الذى تأصل فى الكنيسة وبعض العادات التى أفسدت موروث القديسين. أغضب نضاله الإنجليز بشدة فأعادوه إلى مصر حيث عاش بالقللى وبنى كنيسة مارجرجس بمعاونة أقباط الحى سنة 1915، وذلك قبل أن يستقر فى شارع عبدالعزيز المتفرع من شارع البعثة بشبرا، دون أن يتوقف قط عن مناهضة الاحتلال.
• • •
مع اشتعال ثورة 1919، سمع صياحا فى الشارع أسفل منزله وتبين أنها مظاهرة لمساندة سعد زغلول ورفاقه بسبب صدور قرار اعتقالهم ونفيهم إلى مالطا، فأسرع بالانضمام إلى المسيرة التى اتجهت إلى الجامع الأزهر «حصن الثورة الحصين» كما كان يسميه، واستقر هناك لمدة ثلاثة أشهر، يخطب فى الناس خمس مرات فى اليوم عقب كل صلاة. ترد تفاصيل الأحداث والإضراب العام التى تلاها فى كتب مختلفة مثل «يوميات مصر السياسية، 12 نوفمبر 1918ــ 7 يونيو 1919» لعبدالرحمن فهمى، و«الدين والسياسة فى مصر المعاصرة» للدكتور محمد عفيفى، ومذكرات الشيخ عبدالوهاب النجار «الأيام الحمراء»، ويأتى فيها ذكر القمص سرجيوس الذى شارك فى الإضراب العام وجلجل بخطبة ملتهبة فى قلب الجامع الأزهر، وصفها الشيخ النجار قائلا: «قام سرجيوس وأخذ يتلاعب بأفكار الحضور وعواطفهم بعباراته الطلية الرشيقة، فتكلم عن تلاقى الأجسام وكيف يولد الحرارة وأن الاجتماع قوة كالجبل المثلث يأبى القطع، ثم تكلم عن رشدى باشا، رئيس الوزراء، بعبارة كلها دهاء، فذكر إخلاصه ووطنيته وكيف أنه سن الإضراب عن العمل، وكان أستاذ الأمة فى هذا السبيل، ثم بين أنه اتفق مع الموظفين فى الباطن وإن كان مباينا لهم فى الظاهر، وأن تهديده للموظفين إنما هو ألعوبة من الألاعيب التى تعلمها من الإنجليز الماكرين الخادعين مدة وزارته، فلا ينبغى أن نلومه على ما يصدر عنه من القسوة فى القول، فإن ذلك مكر ودهاء منه».
رجاحة العقل والفصاحة هما ما ميزا القمص سرجيوس وجعلاه نسيجا لوحده. حين اقترب منه أحد جنود الإنجليز أثناء إحدى خطبه بميدان الأوبرا أمام فندق الكونتيننتال ــ الذى تم هدمه أخيرا ــ فى محاولة لقتله بمسدسه لم يتزحزح عن مكانه وقال جملته المأثورة: «متى كنا نحن المصريون نخاف الموت؟ دعوه يريق دمائى لتروى أرض وطنى التى ارتوت بدماء آلاف الشهداء. دعوه يقتلنى ليشهد العالم كيف يعتدى الإنجليز على رجال الدين»، مضيفا: «إنى لن أموت إلا مرة واحدة، أما الجبناء فإنهم يموتون فى اليوم الواحد عدة مرات». تم نفيه مع الشيخ القاياتى ومحمود فهمى النقراشى وآخرين إلى رفح لمدة ثمانين يوما، وعند عودته إلى القاهرة استمر فى النضال وفى نشر المقالات النارية فى مجلته التى غير اسمها إلى «المنارة المصرية» وظلت تصدر حتى عام 1953، وكذلك فى مطبوعات أخرى تحت اسم «يونس المهموز». وظل يخطب فى الناس أينما وجد فى الميادين، فى جامع ابن طولون، من نوافذ القطارات، فى الأماكن المخصصة لعربات الكارو، ويجمع الأموال من القرى لصالح حزب الوفد.
• • •
أخذ على عاتقه محاربة الرجعية والرجعيين كما قال عند ترشحه للانتخابات النيابية عن دائرة «الشماشرجى» بشبرا، وخاض المعركة بالفعل تحت شعار «من غير فلوس يا سرجيوس» لأنه لم يكن يملك الإمكانات المادية اللازمة، وكاد أن يفوز لولا تدخل النحاس باشا الذى طلب منه الانسحاب لصالح مرشح آخر، فوافق. وفى العام 1922، نجح مع آخرين فى استصدار أمر من الملك فؤاد ببناء أول كنيسة قبطية أرثوذكسية (مار مرقس) فى ضاحية مصر الجديدة، عند تقاطع شارعى بيروت وكيلوباترا، على مساحة 3300 متر مربع.
روح المبادرة والشجاعة امتدت أيضا إلى مواقفه تجاه الكنيسة والأفكار الدينية، وجلبت له ميوله الإصلاحية العديد من المتاعب فتعرض للشلح خمس مرات أى تجريده من رتبته الكهنوتية، إذ كان دائم المطالبة بسلطات أكبر للمجلس الملى، وتناول فى عدد من كتبه موضوعات حساسة مثل تحريف التوراة والإنجيل والتثليث والتوحيد وتجسد الله ولاهوت المسيح، أراد من خلالها أيضا التحاور مع علماء المسلمين. اختلف مع أكثر من بطريرك وتصالح مع آخرين، لكنه لم يمت محروما من الكنيسة، بل حله البابا كيرلس السادس وتمت الصلاة الكنسية عليه فى جنازة شعبية بالكاتدرائية القديمة بالأزبكية، وأرسل الرئيس عبدالناصر مندوبا عنه لتشييعه، رغم أن الضباط الأحرار كانوا قد وضعوه تحت الإقامة الجبرية لمدة عام عند وصولهم للحكم، خوفا من شعبيته. أبت الجماهير إلا أن تحمله على الأعناق من شبرا إلى كلوت بك، وكلما أمر بالشارع الذى يحمل اسمه أتمنى أن تنعم روحه بالسلام وأن نظل نقاوم معا كل أشكال الاحتلال.
التعليقات