شجرة العيلة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 4:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شجرة العيلة

نشر فى : الخميس 12 أكتوبر 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : الخميس 12 أكتوبر 2023 - 11:43 م

تستهويني الحكاوي عن شجرة العيلة، وأحب الاستماع إلى تفاصيل علاقات أجيالها ومشاعر الحب والغيرة بين أعضائها، وكلما كانت العيلة كبيرة وممتدّة وكثيرة العدد زاد اهتمامي بها لأن معها تزيد التفاصيل وتصبح لقطة الوطن والمجتمع والناس فيها أكثر وضوحًا ودلالةً. هكذا أحببتُ مسلسلات ليالي الحلمية ولن أعيش في جلباب أبي وبابا عبده وموضوع عائلي، وأحببتُ أيضًا مسلسل التاج (البريطاني) وعجِبتُ كيف يمكن أن يضحّي المرء بحريته ويصبح عبدًا للتقاليد مقابل أن يسكن قصرًا. ولعل من أمتع ساعاتي التي كنتُ أقضيها مع أمي تلك التي راحت تحكي لي فيها عن "أمّا" أو جدتها التي توّلت تربيتها مع عمها هي وإخوتها الثلاث بعد وفاة والديهم في سن مبكّرة. كانت الجدّة امرأة تجمع بين الحزم وطيبة القلب، لم تتعلّم، يخشاها الجميع ولذلك عندما تأمر ابنها- عم والدتي بأن يترفّق بطلاب الحقوق ويعطيهم في امتحان نهاية العام صفرين بدلًا من صفر واحد كان يهّز رأسه في وقار تام دلالة على السمع والطاعة. حكايات حكايات حكايات.
• • •
بدون ترتيب قادتني الصدفة إلى اللقاء مع بعض أفراد عائلة من العائلات الكبيرة إياها، عائلة وجدتُ في تفاصيل حياتها ما يثير ويدهش ويستحق أن يُروى. عائلة وقع كبيرها في حب "المَكَن" فأعطاها حياته لا بل أعطاها أيضًا حياة كل بناته وأبنائه على ما سوف نرى، وحقق نجاحًا مبهرًا في مجال عمله، وكل ما يُعمل بحب يُزهر حبًا. على الفور تقفز إلى الذاكرة صورة فؤاد المهندس أو المهندس سبعاوي عاشق المَكَن في فيلم "عيلة زيزي" وهو يدور نصف استدارة ويرفع يده صائحًا "أيها الناس المكنة طلّعت قماش". وكبير العائلة في حكايتنا كان من هذا النوع، أحّب برّيمة حفر آبار البترول فوق ما يمكن لعقل أن يتصوّر، وأصبح رائدًا في الحفر المائل المُوجّه.. "يعني إيه الحفر المائل المُوجّه؟" سألتُ ابنته التي تعمل في نفس التخصّص، فردّت "يعني إزاي نقدر نوصّل للبير البعيد عن مكان الحفر". قلت "وتحفروا بعيد ليه أصلًا ما تحفروا عند البير نفسه؟". "بيكون المكان مش مجهّز إننا نحفر فيه بشكل رأسي.. ده حتى بابا هو اللي مَصّر الطريقة دي بعد ما كان الأمريكان بس هم اللي بيستخدموها.. طوّر فيها وابتكر وعنده براءات اختراع باسمه (٣١ براءة) وده ساعد على زيادة الكمية المستَخرجة من البترول وتقليل الوقت والجهد". هذا كلام كبير بل هذا كلام كبير جدًا، فالبترول يتحكّم في العالم، يصنع التقدم، يفجّر الحروب، يُستَخدَم في العقوبات.. حاولتُ بجهد معتبر أن أتواءم مع فكرة حُب بريمة حفر، فعلى المستوى الشخصي لا يوجد بيني وبين المكَن عَمار، فما بالك إن كانت المكنة برّيمة؟
• • •
قال المهندس حسين لزوجته إن أحلامه في الدنيا أربعة: أن تكون لديه شركة بترول كبيرة تحمل اسمه، وڤيلا لطيفة تطّل على البحر، وسيارة لاند كروزر، و١٢ ولد وبنت. حقّق حسين مع زوجته الأحلام الثلاثة الأولى لكنها لم تنجب له إلا عشرة فقط من الأبناء: أربعة من البنين وست من البنات بحيث صار يفصل بين البكرية وآخر العنقود ١٤ سنة بالتمام والكمال. ظلّ المهندس حسين على امتداد حياته يمازح أم العيال بأنها لم تكمل له الجزء الأخير من أحلامه، وعندما أخذَت ذات يوم على خاطرها من تكرار هذا المزاح الثقيل وطالبَته بأن يذهب ليكمل حلمه الأخير مع امرأة أخرى.. رجع خطوتين للخلف فورًا وردّ عليها "ماليش ذُريّة غير منك". رجل عصامي بنى نفسه بنفسه، وأقام أولى شركاته من ماله الخاص وسحب أولاده العشرة معه في نفس التخصص. هذه التفصيلة بالذات في حكاية المهندس حسين كانت من أكثر التفاصيل التي أثارت انتباهي، فأنا أفهم أن يؤثّر على ابنة أو ابن أو أكثر لكن أن يؤثّر على الكل جميعًا وبدون استثناء فكيف حصل ذلك؟ كان الأب يصطحب معه أولاده وهم أطفال إلى موقع الحفر وكأنه يشاور لهم على المستقبل ويرسم لهم البريمة على السبورة، وكل الأطفال يحبون الرسم، وهكذا تعرّف الأولاد على المكنة ثم اعتادوا عليها ثم اعتبروها مصدر رزق. من هنا كان طبيعيًا أن يختار الجميع الدراسة في القسم العلمي، وعندما شذّت واحدة وحوّلت أوراقها للقسم الأدبي لتكون بجوار أعزّ صديقاتها تكفّلت صفعة من الأب بتعديل مسارها وإعادة أوراقها إلى حيث كانت. ممممم صفعة؟ "نعم صفعة-ردّت ابنته- لأن القرار جاء بدون مشاورة الأب ولم يتكرر منه هذا السلوك أبدًا". ماشيتُ الابنة فيما قالت وكأن الأب كان سيسمح بتغيير المسار لو أُخذت مشورته قبل التغيير، لكن ماذا أكسب من تشكيك الابنة في نوايا أبيها وكل بنت بأبيها معجبة؟ ثم بيني وبينكم أحببتُ هذا الانبهار الذي لم يبارح عينيها وهي تتكلم عن أبيها فلديّ انبهار مثيل بأبي. كان يقوّي بناته ويعدّهن للمهمة الصعبة فالعمل في الصحراء شاق بامتياز وذكوري بامتياز وهو يريد أن يكسر هذه القاعدة، يقدّم لهن خبرة السنين وحكمة التجارب المتراكمة فيوصيهن بالوضوح التام والبعد عن العبارات الملتبسة حمّالة الأوجه، ويطلب منهن أن يبنين علاقة إنسانية مع العمال فبدونهم لا بريمة ولا حفر ولا بترول ولا يحزنون. لكن رغم علم الجميع بأنهن بنات المدير وأن لديهن المستقبل والامتداد إلا أن هذا لم يمنع من بعض المضايقات.. استخفاف بقدراتهن على تحمّل المسئولية على الأقل في البداية، لكن سرعان ما حُسم الأمر، وأخذت البنات وضعهن تمامًا من أول مهندسة الموقع وحتى المديرة المالية للشركة مرورًا بمسئولة المشروعات.
• • •
في داخل شخصية هذا الخبير النفطي الكبير بعض ملامح من شخصية "سي السيد"، فلا أحد يبدأ الطعام قبل أن يمد هو يده إليه، ومستحيل أن يرتفع صوتُ في حضوره أو حتى حين يكون موجودًا في الجوار، ومن المفهوم ألّا يبقى أحد جالسًا إن هلّ الأب من بعيد، ومن الطريف أن هذه العادة فرضَت نفسها بشكل تلقائي على جميع الأبناء حتى أن واحدة من البنات همّت بالانتفاض من الفراش وقد جاء الأب يزورها فور الولادة فاكتشَفت عمليًا أنها لن تستطيع.. إلى هذا الحدّ؟ نعم إلى هذا الحدّ. ومع ذلك فإن بعض چينات حسين تمردّت على شخصية "سي السيد" كما رسم تفاصيلها باقتدار أديب نوبل. فدع عنك بُعد المهندس حسين عن الانحراف السلوكي لسي السيد، فإن هذا الأخير كان ابن عصره ملتزم بأفكاره المغلقة ويؤمن بأن التعليم للولد والبيت للبنت، أما حسين فكان على النقيض من ذلك تمامًا.. لم يشجّع بناته فقط على التعليم والتفوّق، لكنه ترك لهن حرية الاختيار بين الدراسة الجامعية في مصر أو في الخارج.. فالمهم لديه هو نوع الشهادة وليس اسم الجامعة، ومَن يثق في قدرة بناته على العمل في الصحراء طبيعي أن يثق في قدرتهن على الدراسة في الخارج.
• • •
إنها حكاية شجرة عيلة بدأت باثنتي عشرة ورقةً: أب وأم وعشرة أولاد وبنات وتفرّعت أُسرًا وبيوتًا وأيضًا بترولًا وبرّيمات.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات