ساعة الست - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ساعة الست

نشر فى : السبت 12 أغسطس 2023 - 9:40 م | آخر تحديث : السبت 12 أغسطس 2023 - 9:40 م
تعوّد المصريون على أن يرافقهم صوت الست أم كلثوم حتى فى أحلك الظروف، وهو ما طبقناه حرفيا فى بيتنا حين حولنا ساعة انقطاع الكهرباء المقررة على شارعنا إلى موعد ثابت مع أغانيها. نجلس يوميا على الشرفة بين الثامنة والتاسعة مساءً فى ظلام دامس، ومن حولنا بعض النقاط المضيئة من بعيد. قررنا ضمنيا أن نتعامل مع هذه الساعة على أنها وقت مستقطع من أخبار الدمار والخراب، تتجاذب خلاله العائلة أطراف الحديث على أنغام الموسيقى. خلقنا طقسا مثلما نجحت أم كلثوم فى أن تجعل لحياتها طقوسا مقدسة عرفها الجمهور عن غيب. بدلا من أن يلتف أفراد الأسرة حول راديو قديم فى الخميس الأول من كل شهر بانتظار مفاجآت الست، صرنا نمسك بمحمول أحدنا كل ليلة ونختار ما نود سماعه على اليوتيوب أو الساوند كلاود، فنتنقل بين تسجيلات قديمة ومقاطع غناها لها آخرون وأخريات من المشرق والمغرب. نفرح حين نقع على حفلة الست فيها «مصهللة»، ونتبادل التليفون لنلاحظ شكل الكرسى من خلفها، خشبى بسيط ككراسى المقهى أو أكثر فخامة، وذلك لتخمين مكان الحفل وتاريخه إذا أمكن.
ومع الموسيقى تهل الحكايات والذكريات، شذرات من حياتنا وحياتها وتاريخ البلاد، بعيدًا عن مشكلات نقص الغاز والمازوت والانحباس الحرارى وخلافه. انضم إلينا تدريجيًّا بائع البوظة السورى فى البناية المقابلة الذى ينصت للأغانى المنبعثة من الشرفة حين يخلو محله من الزبائن. يتراقص ضوء الشمعة الصغيرة التى أوقدناها لتطرد الناموس برائحتها العشبية وتساهم فى تهيئة الجو للطقس اليومى. يقول أحدنا إنها غنت «الأطلال» بعد هزيمة السابع والستين فى محاولة للربط بين أطلال الوطن والأحبة، فيعترض والدى موضحا أنها قدمتها على المسرح عام 1966 ويؤكد أنها كانت الحفلة الأولى بعد وفاة القصبجى الذى ظل كرسيه خاويا وراءها، لذا يتذكرها جيدا.
• • •
يتطرق الحوار إلى حياة الفلاحة الحاذقة المحتشمة التى أتت إلى العاصمة عام 1923، أى سنة كتابة الدستور ووفاة سيد درويش، فى فترة محورية من تاريخ نخبة مصرية تجدد شبابها وتبحث عن خطاب استقلال وهوية بعد ثورة 1919. أردد ما كتبته الباحثة الذكية فيروز كراوية فى مؤلفها النقدى الأحدث «كل ده كان ليه» حول مسيرة أم كلثوم من «آنسة ثم ست ثم أم للأمة»، وأثر ذلك على تغيير الصورة الذهنية للمرأة وإعلان عصر غنائى جديد: «فهى لم تكن أول من غنت القصائد والأدوار والابتهالات التى أنشدها الرجال، لكنها أول من وضعت إطارا متكاملا يعين ما سوف يترسخ وما يستبعد، صوتا وشعرا وصورة. (...) ستنظر النساء بانبهار لعنفوان تلك المرأة التى تقف لتعرض كل هذا المدى من الذكر فيها بأريحية. ويسمعها الرجال تتكلم عن لسانهم بصوت عريض يقترب من الخشونة أحيانا، بكل نوازعهم فى الجموح وكلية السيطرة، وفجأة يكتشفون أنها أنثى، بعيدة غير حقيقية، قياسا على النساء كما يعرفونهن».
المنديل، وقفة المسرح، المقدمة الموسيقية الطويلة، التفاريد التى تشدو بها بحسب مزاجها لنسلطن معها، ويحاول الكثيرون حتى الآن تقليدها بعد ما يقرب من خمسين عاما على وفاتها، الوسادة الصغيرة التى لا تفارقها أينما سافرت والتى صُنعت بشكل معين كى تريح رأسها عليها بين فقرتين.. طقوس هى ملكتها المتوجة. تدرس خصائص الجمهور الذى ستلاقيه وتذهب إليه مستعدة، فهى تفضل أن تأكل مع الناس على أن تأكل وحيدة، تستمد الطاقة منهم كما شرحت فى حوار أجرته معها مجلة كلية الهندسة جامعة عين شمس عام 1969: «أبدأ أغنى وكأنى ماشية من أول الشارع ده، والناس فى الشارع والبلكونات مبسوطة، وبعدين ألاحظ حَوارى وأزقة متفرعة من الشارع ألاقى نفسى حودت عليهم، أحيانا بقصد وأحيانا بالصدفة أو الشغف، أو ألاقى نفسى منجذبة ليهم، فأخرج من الشارع الرئيسى وأدخلهم، أتصور الناس اللى فيهم منسجمين وأنا معاهم منسجمة كأنى فى عالم آخر والناس اللى فى الشارع واقفين ورايا. بالطبع عينى على الشارع الرئيسى (اللحن) طول الوقت وبعد لحظات قليلة أرجع له ولا ينقص من اللحن الأصلى أى شىء».
أظن أننا اتبعنا هذه الطريقة نفسها خلال جلساتنا على الشرفة دون أن ندرى، لكى ندلف إلى كوكبها الذى صنعته. الموضوع كله يسير بشكل ارتجالى خلاق، لكننا نرجع فى النهاية إلى النقطة الأساسية، بعد العديد من التفريعات والحوارات التلقائية التى يتذكر معها أحدنا الأغنية التى أحب عليها بنت الجيران أو أخرى كنا نرددها فى الرحلات المدرسية بعد تغيير الكلمات لتصبح «الشاى الشاى الشاى» بدلا من «إزاى إزاى إزاى» أو ثالثة كانت أختى تشغلها دائما أثناء تجفيف شعرها بعد الاستحمام، ثم تصدح الفلسطينية دلال أبو آمنة «بالهوى غلاب» فنعرف جميعا أين التزمت بأداء الست وأين بالغت فى استخدام بحة صوتها المميزة.
• • •
حين نكبر نبدأ فى رؤية تفاصيل لم نكن ننتبه إليها، كذلك حين نخلو إلى أنفسنا هربا منها فيلاحقنا الصوت وحكاياته، يصل بنا إلى «بدروم» فيلا الست بحى الزمالك حيث نزلت وانسحبت باكية بعد خطاب التنحى، أغلقت الباب عليها وعاشت فى خلوة شبه صامتة بعد أن أطفأت الأنوار، كانت هذه عادتها حين تمر بكارثة كبرى. تنزل إلى البدروم وتربط رأسها بمنديل لعله يخفف آلام الرأس وترفض الحديث مع الجميع. فعلت ذلك بحثا عن دور لها بعد الهزيمة حتى وصلت إلى فكرة تدشين حملتها لصالح دعم المجهود الحربى، التى يتناولها بالتفصيل كتاب صدر أخيرا للباحث الدءوب كريم جمال بعنوان «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى». يورد المؤلف اقتباسا لها نُشر فى مجلة الهلال عام 1971، قالت فيه: «أبيت أن أستسلم لليأس بعد النكسة، لم يكن أمامى إلا أحد أمرين: فإما أن ألتزم الصمت وأقبع فى ركن من الانهيار النفسى، وإما أن أمضى بسلاحى، وهو صوتى، أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة، واخترت الأمر الثانى». وفى موضع آخر: «رأيت فى صوتى رغبة فى الانطلاق، وأصبح غنائى مجندا لهدف عظيم قادم: تحويل الهزيمة إلى انتصار والثأر من النكسة».
نفتش عن حفلاتها المختلفة خارج البلاد على اليوتيوب فى تلك الفترة، كمن يحاول استلهام قوتها كلما اشتدت حلكة الليل، فنقع على تسجيل السودان حيث غنت «هذه ليلتى» و«الأطلال» فى ديسمبر 1968. استقبلها الناس بحفاوة شديدة مثلما احتشدوا للقاء عبدالناصر عند حضوره القمة العربية فى الخرطوم بعد الهزيمة. فى ختام «الأطلال» تعمد عازفو الإيقاع النقر بوضوح على الدفوف لمداعبة الروح السودانية والإيقاعات المحلية. يروى الصحفى الراحل يوسف الشريف تفاصيل رحلتها التى رافقها خلالها وكتب عنها نصا بديعا نُشر قبل سنوات فى «مما جرى فى بر مصر»، موضحا براعتها فى فهم الجمهور وإشباع مشاعره وابتكارها «توليفة عبقرية فى الأداء تجمع ما بين السلمين الخماسى والسداسى». دق البعض الأرض محاكيا الإيقاع، وانطلق صوتها على اليوتيوب «سوف تلهو بنا الحياة»، والناس تصيح «أعد»، وهى تردد مؤكدة على شرفتنا «سوف تلهو بنا الحياة» بفستانها الأخضر المطرز على الصدر.
التعليقات