كـمَامَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 6:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كـمَامَة

نشر فى : الجمعة 12 يونيو 2020 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 12 يونيو 2020 - 8:15 م

قُبيل انتشار المَرضِ والخَوْفِ، كانت الكمامةُ تُرى فى الشوارع على استحياء. ترتديها القِلَّةُ، وتعزفُ عنها الكَثرةُ وربما تسخر مِن مُستخدميها. بعد وقتٍ قليل ومع تصاعُد عددِ المصابين بالكائنِ الدقيق، ومع حدوث وفياتٍ هنا وهناك، إضافةً إلى إلحاح الرسائلِ المُوَجَّهة للمواطنين عبر وسائلِ الإعلام؛ حقَّقَت الكمامةُ إقبالًا أوسعَ، وانقسمت الشوارع بالعدلِ والقسطاس بين المُكَمَّمين وعراة الوجوه.
***
فى غَمضةِ عين، تحوَّلت الساحاتُ العامة والطرقاتُ إلى مجموعةٍ مِن الكمامات تتحرك فى الاتجاهاتِ جميع، وفقًا لمَقاصد حامليها ومُبتغياتهم. ظَهَرَ صغارٌ وكِبار يستخدمون أغطيةَ الوجه، ويحرصون على وجودِها فى حَوْزتهم أينما ذهبوا، ولم يكُن الخوفُ هذه المرة هو العامل الأوحد الذى يدفعهم إلى التَكَمُّم؛ بل غرامةً ماليةً ذات قيمةٍ كبيرة، فرضتها الدولةُ على غير المُكَمَّمين، وجعلتها شرطًا لقضاءِ المَصالح، ودخول المنشآتِ العامةِ والخاصةِ على حدٍ سَواء وفى مُقدمَتها البنوك والمَصارِف؛ حيث يتكدَّس المواطنون لقضاء حوائجٍ لا يُمكِن تجاهلُها ولا إهمالُها.
***
الكَمامةُ فى مَعاجِم اللغةِ العربيةِ هى الغطاءُ بما له مِن استعمالات مُتعدّدة، وكَمَّمْتُ كذا أي؛ سَتَرتُه وسَدَدْتُه، والكَمُّ هو أيضًا قَمْع الشيء. الفاعل مُكَمِم بكسر الميم والمفعول به مُكَمَّم بفتحِها، أما كلمةُ «تكميم« فلا ترد فى المَعاجِم القديمة كلسانِ العَرَب؛ رغم أنها مُستخدمةٌ فى الأزمنة الحديثة بكثرة، والتكمِيم بالطبع أنواعٌ، وأسبابُه فى تبايُنٍ واختلاف، ولا غرابة أن سُمّيَ أسلوبُ تحجيم المَعِدة، وخنقها طمعًا فى إفقاد المريضِ وَزنه الزائد؛ بعملية التَكمِيم.
***
عَرِفَت بعضُ الشُعوبِ الكمَامةَ دون أن يغزوَها مرضٌ أو يرهِبَها وباء. فى شرق آسيا وتحديدًا اليابان، دَرَجَ الناسُ على ارتداءِ الكمَامات تَحَسبًّا لارتفاع نِسبِ تلوُّث الهواء، وامتلائِه بجُسيمات ثقيلة، تؤثر على يقظةِ العَقل، وتحُوُل دون التفكير الواضح السليم، بل وقد تهبطُ بمَلَكاتِ الإدراكِ واتخاذِ القرارِ درجات. احتللنا مَرتبةً مُتقدمةً فى قائمة البلدان التى تحظى بتلوُّثِ هوائِها، لكن أحدًا لم يخطر ببالِه ارتداءُ كمَامَة؛ إذ لا حاجة لنا بها، فالتفكير يبدو كثيرَ الأحيان مثل عدمه، والحفاظُ على صفاءِ الذهن لا يحمل لدينا قدرًا مُعتبرًا مِن الأهمية، وإدراكُ الأشياءِ على حقيقتِها لا يؤدى إلى تغيير، والحلُّ الأمثلُ أن يَخِفَّ الإدراكُ ويتخفَّف العقلُ مِن حُمولِه؛ فتسير الحياةُ بسلامٍ وأمان.
***
إذا كانت الكمَامَةُ التى نتداولُها اليومَ بحرصٍ، ونبحثُ عنها بدأبٍ، ونجدها فنشعر أنَّا قد وقعنا على كَنز؛ غرضًا ماديًا مَلمُوسًا، فثمَّة كمامةٌ أخرى مَعنوية، لا تُرى بالعينِ، ولا يُمكن إمساكُها باليدّ؛ إنما تعكسُ الأحوالُ وجودَها وتؤكده. كمَامَةٌ تُسكِت الصوتَ وتشلُّ اللسانَ، ويمتد أثرُها إلى الأصابع فتُيبسُها، وتجعلها فى خَبَر كان. كمَامَةٌ تَجِفُّ فى حضورِها الأحبارُ وينقطع المدادُ، لا تقى مِن ميكروب ولا تمنع عوادمَ وأدخنةَ ومُلَوّثات.
***
للكمَامَة التى صارت لازمةً لا تفارقُ الوجوه؛ رمز ودلالة. مُفارقةٌ لا تَغفَلُ عنها عينٌ ولا يخطئها يقظان، لكن الناسَ لا يعدمون وسيلةً للتغلُّب على الأوامرِ والضوابطِ والقُيود؛ هناك مَن يُنزِل الكمامةَ عن أنفِه ويُبقيها على فَمِه، ومَن يعلقُها فى أذنٍ ويُحرّر الأخرى، ثم يعدل وضعَها إذا لاح شبحُ العقاب، ومَن يجعلها فى أذُنيه لكنها قابعةٌ أسفلَ الذقن، لا تعود مكانَها الأصليّ إلا عند استشعار الخَطر.
***
على كل حال؛ لم تمنع المحاذيرُ والتحذيراتُ، ورسائلُ الخَوف المَبثوثة بلا انقطاع، آلاف البشر فى الولايات المتحدة الأمريكية مِن الخُروج، والانضمامِ إلى مَسيرات الاحتجاجِ، ورَفضِ مُمارساتِ الشُرطةِ العنصُريَّةِ بحَقّ الأشخاصِ داكنى البَشرة. تَجَمَّع الناسُ ورفعوا اللافتاتِ ومعها ارتفعت الأصواتُ؛ مِكتومةً بفِعلِ الحواجزِ النسيجِيَّةِ ربما، لكنها تُسَجّل حضُورَها وتصعد إلى فضاءِ السَّاحات.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات