مساحات رمادية - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مساحات رمادية

نشر فى : السبت 12 مارس 2022 - 7:45 م | آخر تحديث : السبت 12 مارس 2022 - 7:45 م

مع اندلاع الصراع فى أوكرانيا خلال الأسبوع الأخير من فبراير الماضى، كان على جميع الأطراف توخى الحذر حينما يأتى ذكر كلمة «حرب» بشكل صريح، فالرئيس بوتين اعتبر ما يحدث «عملية عسكرية خاصة»، ومنعت موسكو استخدام كلمة حرب رسميا، أما الدول الأعضاء فى حلف شمال الأطلسى (الناتو) فقد حرصوا فى البداية أن يقفوا فى تلك المساحة الرمادية بين السلم والحرب كى يستبعدوا شبح الدمار الشامل أو افتراضية حرب عالمية نووية. ادعوا التزامهم بحيادية الرمادى حتى لو جاءت تصرفاتهم عكس ذلك، وهو ليس لونا بحد ذاته وإنما تدرج بين الأبيض والأسود. ورأينا أنه لا مفر من سلطة الرمادى، لا مفر من احتمالاته غير المحصورة، من هذا التفاوت والالتباس الذى تزداد مساحاته فى حياتنا. مساحات ضبابية يسمح غموضها حتى فيما يتعلق بالعلاقات الشخصية بنوع من التساهل والاستباحة لعدم وضوح الرؤية وتلامس الخطوط الفاصلة بين الحلم والعبث والاحتيال. نُفضل أحيانا تسمية الأشياء بغير أسمائها كى تصير مقبولة أو نجد تبريرا لما نقوم به، فحتى على المستوى القانونى تشى المساحات الرمادية بوجود فراغ تشريعى يحتمل العديد من التأويلات التى قد يستخدمها البعض لصالحه والتى ربما تُركت عمدا لاجتهاد أولى الأمر.
• • •
منذ تسعينيات القرن الفائت وانتهاء الحرب الباردة ونحن نشهد تناميا ملحوظا للمناطق الرمادية جغرافيا وجيواستراتيجيا، دول تتفكك وأقاليم تقع فى «البين بين» لأنها على الحدود بين طرفى نزاع أو خرجت عن السيطرة ولم تعد فعليا تابعة لأحد أو لا تود الاشتراك فى المعارك الدائرة أو وقعت فى أيدى مجموعات بعينها وصار لديها استقلالية اقتصادية وأنشطة بديلة. والأمثلة كثيرة فى أماكن بالبلقان والقوقاز والعراق وأفغانستان والصومال وتشاد، إلى ما غير ذلك. يصف البعض حياة سكان هذه المناطق الرمادية وكيف ينعكس وضعهم على طريقة تفكيرهم، فيفضلون التحلى أحيانا بالصبر والسلبية واللا مبالاة تجاه سياسة الدول، ويصبح البقاء هو هاجسهم الحقيقى والوحيد، فى حين يضطر بعضهم إلى التخلى عن الحياد والانضمام لأحد المعسكرات الموجودة على الأرض.
• • •
اختار الروائى الأوكرانى الشهير أندريه كوركوف أن تكون المنطقة الحدودية الواقعة بين بلاده وروسيا على امتداد 430 كم شرقا هى مسرح أحداث روايته الأخيرة «النحل الرمادى». زار عدة مرات القرى الصغيرة الواقعة فى هذه المنطقة الرمادية والتى صارت شبه خالية من السكان بعد أن هجرها الكثير من الأهالى ولم يبق فيها سوى العجائز والأطفال والفقراء الذين لم يجدوا سبيلا إلى الهرب. دمج فى روايته بين هذه القرى المجاورة ليصنع واحدة خيالية يعيش فيها فقط مواطنان اثنان. نسج صداقة بسيطة وغير متوقعة بينهما، وعرض حياتهما اليومية خاصة منذ تأجج الصراع فى 2014 وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وذلك فى ظل عداواتهما القديمة واختلاف ولاءاتهما، فأحدهما يسكن فى شارع شيفتشينكو، لاعب الكرة الأوكرانى السابق والسياسى الحالى، والآخر فى شارع لينين، الثورى الماركسى ومؤسس الدولة السوفيتية.
سيرجى، أحد بطلى العمل الأدبى، الذى يشتغل بتربية النحل، يسافر من المنطقة الرمادية متجها إلى القرم، وخلال الرحلة نكتشف معه العديد من تفاصيل وتعقيدات الصراع الدائر والعيش بين مطرقة الجيش الأوكرانى وسندان القوات الانفصالية الموالية لروسيا. الرواية تتحرك فى مساحة رمادية بامتياز، إذ صدرت قبل الأحداث الأخيرة، فالشخصيات لا تحظى بحياة طبيعية لكنها ليست فى حالة حرب، ويقول الكاتب إنه فى حالة اندلاع حرب ستتمدد المساحات الرمادية بطول الحدود مع روسيا على مسافة 3000 كم.
• • •
أندريه كوركوف فى حد ذاته هو مثال حى على تعقيد الوضع، فقد ولد فى ليننجراد بالاتحاد السوفيتى السابق عام 1961 وعاش فى كييف منذ الطفولة، وهو يكتب باللغة الروسية ويعتبرها لغته الأم، مثل العديد من أبناء جيله أو تقريبا نصف الشعب الأوكرانى، فقد كانت الثقافة الروسية هى السائدة فى أوكرانيا لوقت طويل لأسباب سياسية، أما فى السنوات الأخيرة فقد حلت تدريجيا الثقافة الفردية الأناركية الأوكرانية التى تنطلق من مبررات تاريخية محل العقلية الجمعية السوفيتية، واختلف التعليم فى المدارس، ما خلق فروق جيلية واضحة. هو يشرح كل هذه الظلال الرمادية فى العلاقة بين البلدين وشعبيهما من خلال كتاباته الأدبية التى تُرجمت إلى 35 لغة، ولكن أيضا من خلال مداخلاته الإعلامية ومقالاته التى حرص عليها أخيرا لشرح الموقف وملابساته، إذ توقف عن استكمال عمل تاريخى تدور أحداثه بعد الحرب العالمية الأولى ليتفرغ إلى مهمته الجديدة التى فرضها الواقع عليه. مارس الصحافة وكتابة السيناريو والتصوير الفوتوغرافى، لكن منذ صدور أولى رواياته «البطريق» فى منتصف التسعينيات وهو يتناول دوما فى مؤلفاته تداعيات سقوط الاتحاد السوفيتى وتأثيراته السريالية على حياة البشر بسخرية لاذعة. مُنعت أعماله فى روسيا منذ سنة 2014 وفى الأيام الأخيرة دأب على تغيير محل إقامته بعد أن بلغه أنه قد يكون فى خطر، فصوته مسموع ومتابعوه كثر على مواقع التواصل الاجتماعى، وبالطبع من يتكلم بعمق عن دلالات اللون الرمادى وتزايد مساحاته قد يثير مشاعر الحنق.

التعليقات