أكبر من مجرد تعلم القراءة والكتابة - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أكبر من مجرد تعلم القراءة والكتابة

نشر فى : الأحد 11 يونيو 2023 - 9:45 م | آخر تحديث : الأحد 11 يونيو 2023 - 9:45 م
نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة آمال موسى، توضح فيه ضرورة ألا تقتصر العملية التعليمية على تلقين الطلاب بعض المواد الدراسية والمعلومات دون التركيز على جانب التنشئة والتأهيل التربوى السليم للطفل والطفلة، لاتقاء شر ثقافة التمييز والعنف ولإرساء قيم السلام وقبول الاختلاف... نعرض من المقال ما يلى:
من المهم أن نتبيَّن الفرق بين مفهومى التربية والتعليم اللذين نستعملهما اليوم بشكل متواتر ويذهب فى ذهن الغالبية أنهما واحد. فالتربية تختلف عن التعليم وهى أشمل فى معناها وأبعادها من التعليم. فالتربية تقوم بها مؤسسات عدة مادية ورمزية، وتمتد على طول حياة الفرد بينما التعلم مرتبط بالذهاب إلى مؤسسات التعليم من رياض أطفال وصولا إلى الجامعة.
أظهرت التجارب الجيدة أن مقاربة نحت كينونة إنسان معرفيا وقيميا إنما يجب أن تقوم على فكر التربية وأفقها الرحب. فالأفضل هو تناول فكرة التربية لأنها المعنية بخلق كيان كامل فكرا وثقافةً وقيما. وفى عملية التنشئة هذه فنحن نراعى المشروع المجتمعى ككل وما يشترطه فى الفرد من أجل ضمان السلام والتعايش والتسامح.
لذلك؛ فإن الندوة الدولية التى نظمتها «الألكسو» مؤخرا حول التّربية على المواطنة وقيم التسامح والسلام والعيش المشترك لتحقيق التنمية المستدامة فى إطار تحويل التعليم، نعتقد أنها تصب فى عمق ما تقوم به غالبية دولنا اليوم، حيث تمت الاستفادة من عقود اكتوت فيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية من الإرهاب والعنف، ووجدنا أنفسنا أمام أسئلة حارقة: من أين جاء هؤلاء الإرهابيون وأى مسئولية تتحملها مقاربتنا لعملية التنشئة؟
كانت هذه الأسئلة مهمة من أجل إضافة مواد ومواضيع مهمة فى برامج التعليم، ومن أجل الانتباه إلى أثر الرمزى والثقافى فى تنشئة الطفل. ولا يفوتنا أنّ أهداف التنمية المستدامة تمثّلُ إطارا مرجعيا لرسم السّياسات العموميّة وفق مقاربة كونية وشاملة تأخذُ بعين الاعتبار التغيّرات الاقتصاديّة والتّكنولوجية المتسارعة محورها الطفلُ، مرجعنا فى ذلك الإحصائيات التى تبيّن أنّ ثلث السكّان تقريبا فى العالم العربى هم من الأطفال؛ وهو ما يفترض بالضّرورة إيلاء العناية القصوى لمرحلة الطفولة المبكّرة، والحرص على تمتع كل الأطفال بحقّهم فى التّربية ما قبل المدرسيّة باعتبار أن الأطفال الذين لا يرتادون رياض الأطفال هم الأكثرُ عرضة للتسرّب والانقطاع المدرسيين، وهم أيضا الأكثر تهديدا بضعف التحصيل العلمى ومن ثمة الأكثر قابلية للعور بالدونية والحقد الاجتماعى. والشىء نفسه بالنسبة للتمدرس، حيث بقدر ما نجد بلدانا حققت منجزا نوعيا فى مجال التعليم مثل تونس ومصر التى تبلغ فيها نسبة التمدرس اليوم 99.8 نجد بعض البلدان ما زال أمامها خطوات لغلق ملف تعميم التعليم.
فالنفسية تبدأ فى التشكل من الطفولة، وليس من صالح المجتمع أن يكبر الأطفال فى ظروف غير عادلة والفرص فيها غير متكافئة. بل إن مصلحة المجتمع تكمن أساسا فى عدم التمييز حتى لو كلفه ذلك موارد مالية كبيرة. فالاستثمار فى الرأسمال البشرى من الطفولة لخلق ذوات متوازنة يجنبنا سيناريوهات تحمل تبعات ظهور أشخاص لديهم قابلية للإرهاب والعنف وتهديد مصالح المجتمع.
ومن هذا المنطلق؛ فإنّنا نُؤمن بأنّ المكتسبات والمهارات التى تتحقّق لدى الطفل منذ الولادة إلى غاية سنّ الستّ سنوات وما بعدها تؤثّر كلّ التأثير على باقى المسار الدّراسى والحياتيّ؛ إذ تُساهم التّربية ما قبل المدرسيّة مثلما أثبتته الدّراسات فى تحفيز وإذكاء قدرات الطفل فى التفكير وتطوير ملكاته الذّهنية الأساسيّة وتنمية ذكاءاته المتعدّدة بما يمكّنه من الانفتاح على العالم وتملّك طرق التّعبير واكتساب قيم التّعايش السّلمى وقبول الاختلاف. كما أن هذه الإحاطة المبكرة والعادلة تتضمن فكرة مهمة جدا: إنها فكرة الاعتراف، وهى الفكرة التى تقطع الطريق أمام كل الأفكار السلبية وتقيم علاقة صحية مع البيئة الاجتماعية.
كما يعدّ إدماج مُقاربة «التّربية على قيم المواطنة» فى مسارات التّعليم والتّعلّم من أهمّ الخيارات الّتى تميّز التعلّمات الجديدة والتى من شأنها أن تُؤثّر فى سلوك الطّفل واختياراته باعتباره كائنا ينمو وذاتا قابلة للتعلّم، خاصّة أنّ التّربية على قيم المواطنة تشتغل أساسا على ما يتهدّد المجتمعات من أخطار وتساؤلات تتعلّق بالمواطنة والتّنمية المستدامة والصّحّة والسّلامة والبيئة والمعلومات والإعلام والمساواة بين الجنسين... قصد بناء مهارات اجتماعيّة وإيتيقيّة لدى الطّفل بوصفه إنسانا ومواطنا متشبّعا بالقيم المجتمعيّة والإنسانيّة كقيم الحرّية والعدالة والديمقراطيّة والمساواة وحقوق الإنسان والواجب والمواطنة... فالتربية على المواطَنة هى ببساطة التربية على عدم التمييز على أساس الجنس أو الدين أو العرق، وهذا جوهر المشروع التربوى للطفل، حيث يقيه من ثقافة التمايزات التى تجرنا إلى العنف وتجعل من التوتر سمة التعايش.
إنّ العمليّة التربوية لا تقتصرُ على التّعلّمات فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى التّنشئة الشّاملة التى تشترك فى تأمينها مؤسسات عدة للتنشئة الاجتماعية: كلّ هياكل الدّولة ومكوّنات المجتمع المدنى، ولعلّ أهمّها الأسرة والمدرسة ومؤسّسات الطفولة المبكّرة التى من شأنها أن تغرس فى الطفل قيما تضبط العلاقات وتوزّع الأدوار. وفق نسق قيمى لا يعترف بالتمايزات القائمة على أساس الهيمنة الذكورية مثلا فى خصوص الأدوار بين الجنسين.
إننا اليوم أمام تحدّيات ورهانات حقيقية فى عصر أصبحت فيه المعرفة هى المحرّك الرئيسى للتّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، حيث دخل اقتصاد المعرفة صلب السّياسات الاقتصاديّة وأصبح الرّأس المال الحقيقى هو الثروة البشرية المؤهّلة والقادرة على تحقيق القيمة المضافة، وهو ما يفترض أربعة ركائز أساسية تتمثّل فى نظام اقتصادى ومؤسساتى قوى، ونظام تعليم سليم وجيّد، وبنية تحتية معلوماتية وبرامج محفّزة على الابتكار بما يستجيب أيضا لأهداف التنمية المستدامة وإرساء ثقافة المواطنة والتسامح والعيش المُشترك.
إنّ التحوّل فى التعليم لم يعد خيارا، بل ضرورة تستوجب الانتباه إلى كل التفاصيل التى تسهم فى البناء الرمزى للفرد ومراجعة الخيارات التعليمية فى جميع مراحلها، وخاصّة منها مرحلة الطفولة المبكّرة وفق مقاربة تراعى مبدأ تكافؤ الفرص فى التعليم والتربية على المواطنة لأجل الاستدامة وتجذير قيم السلام والتسامح والقبول بالاختلاف والعيش المشترك ونبذ العنف، لأجل لا يكون أحد خلف الركب.
التعليقات