نَــــــظْرَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 3:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نَــــــظْرَة

نشر فى : الجمعة 11 فبراير 2022 - 8:55 م | آخر تحديث : الجمعة 11 فبراير 2022 - 8:55 م
نظرةٌ فابتسامة، فمَوْعِد فلقاء. شَهِدت وقوعَ الأفعالِ الأربعة بتتابُعها، ثم كلَّلها زواجٌ فطلاق. لم يتعد زمنُ الحدثِ منذ بدايته حتى نهايته شهرًا واحدًا، اكتشف كلُّ طَرَفٍ خلاله أن نظرتَه لم تكُن في محلّها، وأن الحبَّ الذي جال في الخيالِ لم يستقرّ على أرضِ الواقع، ولم يُنبِت فيها جذرًا ولا ساق.
• • •
ربما كان الحبُّ الذي ينبثقُ من النظرةِ الأولى نادرةً من النوادر؛ فكرةً شاعريةً تراود القلوبَ المُرهفةَ، وتداعب المشاعرَ المُتعطّشةَ التي أصابها الجفاف. قلَّ في أيامنا هذه أن يُولد حبٌّ في لحظة، وأن يستمرَّ على حالِه ولو لبضعةِ أعوام. قديمًا غنى عبد الوهاب: إن عشقنا فعذرنا أن في وجهِنا نَظَر؛ والحقُّ أن النظرةَ بوابةٌ، قد تُفضي إلى ساحاتٍ رحبةٍ؛ لكن الحياة تعيد تشكيلها، والظروفَ العسيرةَ تختزل في كثير الأحيان الواسعَ، وتقلصُ الرؤيةَ، وتضيّق الصدر.
• • •
النظرةُ في قواميس اللغةِ العربيةِ هي المرةُ الواحدةُ من الفعل نَظَرَ، أي وَجَّه عينيه إلى جسمٍ حاضر؛ مكان أو جماد أو إنسان أو حتى إلى الأفق، فإن أبصر ما ينظر إليه؛ فقد ارتدت أشعةُ الضوءِ، ورسمت على الشبكيةِ صورةً، التقطتها مَراكزُ المُخُّ وترجمتها.
• • •
قد تحمل النظرةُ من المعاني ما تضيق عنه الكلماتُ؛ هناك نظرةُ عتابٍ تقتل دون أن يصاحبَها حرفٌ، ونظرةُ غضبٍ تجندِل دون صراخ، ونظرةُ يأسٍ يغرب معها الكونُ وينتهي. هناك أيضًا نظرةُ أملٍ ورجاء يحملها المَرءُ ما بقي فيه نبضٌ، ونظرةُ تقديرٍ وعرفان يهديها لمن له عليه يد بيضاء، وفي الجعبةِ نظرةُ استنكارٍ وتحدي يُطلقها تجاه مُعتد ظالم، ولا تفوت الواحد فينا نظرةُ انكسارٍ ينوء بها من دهمته النوازلُ وهزمته الخطوب.
• • •
هناك مئاتُ النظرات الأخرى التي نطلقها ونتلقّاها ما كُنا في حالِ الصَّحو، وفي المُقدمة منها تلك النظرة العابرة التي تمرُّ على المَوجُودات مرورَ الكرامِ، لا تتريثُ أمام التفصيلاتِ ولا تدقّق فيها، إنما تحمل إلى صاحبِها انطباعًا عامًا كليًا. مثل هذه النظرةُ تكون أغلبَ الأوقات خادعةً، لا يجوز التعويلُ عليها في بناءِ المواقفِ وإطلاقِ الأحكام، ولا أكثر من أسطُح برَّاقة قد أخفَت عطنًا مقيمًا، فيما حجبت الأتربةُ معدنًا نفيسًا وأًصيلًا.
• • •
إذا امتلك المرءُ نظرةً مَحدودةً للأشياءِ؛ فكناية عن ضيقِ الأفقِ وفقرِ الأفكارِ، وعن رؤية قاصرة سطحية؛ لا عمق فيها ولا قُدرة على تخطّي الحواجزَ، وعبور المرئي إلى غير المرئي. على النقيض منها تأتي النظرة الثاقبة؛ تلك التي تكشف الجَوْهرَ، وتفصل الجيدَ عن الرديء، والصحيحَ عن التالفِ، وتُقيّم ما يلزم تقييمه. قلَّما تفوت صاحبَها تفصيلةٌ أو شاردة، وقلَّما يخطئ الاستنتاج، أما إذا خذل واحد صاحبَه وتقاعَس عن نُصرتِه، قال المَخذول: خابت فيه نظرتي، والمعنى أنه توقَّع من صاحبِه ما لم يجد؛ أراد السندَ فإذا به يهوي من علٍ، وبحث عن المؤازرةَ فراوغه السراب.
• • •
في لحظةِ تعارف قصيرة، قد يصطدم الشخصُ بما يقيم بينه وبين الآخر جدارًا صعب الاختراق، يصدُّه ويُلقي في نفسِه الرفضَ والنفورَ؛ قبل أن يدرك العقلُ الأسباب. يحدث أن تتجلى الحيثياتُ المنطقية تباعًا، وتتكشَّف المُبرراتُ، وتتبدّى تدريجيًا بعض الطباع المزعجة والخصالُ؛ فيتأكد صدقُ النظرة الخاطفة ويترسَّخ أثرها ويدوم.
• • •
بعضُ الصغار تكفيهم نظرةً صارمةً كي يمتنعوا عن مَسلكٍ مُزعج، وبعضٌ آخر لا يردعه نَهر ولا زَجر ولا وَعيد. مِن المُعلمين والمُعلمات مَن يدخل الفصلَ فإذا بالصمت التام يلف أركانه ويسود، ومنهم من يدخل زاعقًا، ويضرب المكتب بيده وعصاه، ويفقد أعصابه بينما التلامذة من حوله ما بين قيام وقعود، وساحةُ الدرسِ تمُوج بعراكٍ وصياح؛ غاب آمرُها أو حضر، الأمر سيان.
• • •
سمعنا ألاف المرَّات تلك العبارة القصيرة المَاكرة: نظرة سريعة على أهمّ ما وردَ من أنباء، ينطقُ بها مذيعو نشرات الأخبار، فنعرف نحن المستمعون أننا سنتلقى زُمرةً مما قد يلوّن نهارنا وليلنا بالشجون. قد جرت العادةُ أن نستقبلُ قراراتٍ وتصريحاتٍ لا نُشارك في صناعتِها، وأن نعاني في التوّ أثرَها ونحمل جريرَتها، وأن نعجزَ عن تبديلِها أو تعديلِها أو وقايةِ أنفسنا من شرورِها.
• • •
قد تأتي النظرة بما يستحب ويستطاب، وقد تستجلب من الأهوال ما لم يكن في الحسبان.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات