«سكورسيزى» وسينما البطل المأزوم - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«سكورسيزى» وسينما البطل المأزوم

نشر فى : السبت 10 ديسمبر 2022 - 9:00 م | آخر تحديث : السبت 10 ديسمبر 2022 - 9:00 م

انطلق عشقنا للسينما دوما عبر مسارين: مشاهدة الأفلام، وقراءة الكتب عنها، وبسبب هذا العشق، قمنا بتكوين مكتبات سينمائية صغيرة، لأن ما هو مكتوب بالعربية عن السينما العالمية، ومخرجيها الكبار، ومسيرتهم الفنية، لم يكن كبيرا، وكان فى معظمه مترجما بلغة ليست دقيقة العبارات.
لذلك أجدنى سعيدا بهذا الجهد المعتبر الذى يقوم به، بدأب وشغف ووعى وإخلاص، الناقد السينمائى أمير العمرى، والذى يبدو كما لو كان مشروعا متعدد الحلقات، أثمر كتبا تتناول أعمال مخرجين عالميين، بمنهج واضح، يرصد مفاتيح أفلام كل مخرج، والأفكار التى تشغله، واختياراته الأسلوبية والجمالية، كما يتضمن كل كتاب تحليلا نقديا تفصيليا لأعماله، وأبرز قراءات النقاد الأجانب لتلك الأفلام، وهو منهج يجعل من كل كتاب مرجعا حقيقيا، ويدفع القارئ لإعادة مشاهدة تلك الأعمال بنظرة مختلفة، أو يحمسه لمشاهدتها لأول مرة، إذا لم يكن قد شاهدها من قبل.
من تلك السلسلة صدر للعمرى من قبل كتابان مميزان: أولهما عن عالم المخرج فيدريكو فيللينى، وثانيهما عن عالم المخرج سيرجيو ليونى، وها هو يقدم كتابه الجديد، الصادر عن مهرجان أفلام مهرجان السعودية، بالتعاون مع دار رشم، والذى يحمل عنوان «مارتن سكورسيزى.. سينما البطل المأزوم»، متناولًا سيرة وأعمال أحد أكثر المخرجين الأمريكيين موهبة، وإنجازًا، وإثارة للجدل.
يختار المؤلف 20 فيلما من أفلام سكورسيزى، تتيح التركيز على الأفكار التى تشغله، والتيمات التى تؤرقه، وتجليات كل ذلك دراميا وأسلوبيا وجماليا، فكأنك ترى عالم سكورسيزى حيا نابضا، وصفا ونقدا وتحليلا، بل لعلك ترى أمريكا، ماضيا وحاضرا، فى عين أحد أبرز مخرجيها، بقدر ما ترى عقل سكورسيزى، وهواجسه، وأسئلته المعلقة والمؤرقة، كما أسقطها على شخصيات أفلامه، فكل مشروعات أفلامه تتم تحت إشرافه، وتظللها رؤيته، شكلا ومضمونا.
سياحة ممتعة ومدهشة وعميقة أيضا، تبحث عن بذور الأفكار والهواجس والأسلوب، حتى فى أفلامه القصيرة الأولى، وهو طالب فى قسم السينما بجامعة نيويورك، وفى أفلامه الروائية الطويلة الأولى مع منتجين مستقلين، مثل فيلمه المهم «الشوارع القذرة»، وصولا إلى أفلامه الهوليوودية الضخمة، وبعض هذه الأفلام حقق الملايين فى شباك التذاكر مثل «الراحلون» و«شاتر أيلاند» و«ذئب وول ستريت».
لم يتوقف الرجل عن البحث عن تمويل لتحقيق أفلامه، من إنتاج محدود مستقل فى بداياته الأولى، وصولا إلى فيلم «الأيرلندى»، الذى أنتجته نتفليكس، بميزانية وصلت إلى 175 مليون دولار، وانتظارًا لعرض فيلمه القادم «قتلة قمر الزهور»، الذى مولته شبكة آبل، وميزانية هذا الفيلم تقدر بـ 200 مليون دولار.
سكورسيزى، كما رسم العمرى معالم شخصيته وأفلامه، ليس مجرد مخرج حرفى بارع فحسب، ولكنه صاحب رؤية وبصمة شخصية، بل لقد نجح فى أن يجمع بين سينما النوع، وسينما المخرج صاحب الأسلوب، ونجح فى أن يأخذ موضوعات أفلامه وشخصياتها إلى عالمه الخاص وأفكاره وهواجسه، وامتزجت فى أعماله مدارس وأفلام أمريكية وأوروبية أعجب بها، بحيث لم يعد غريبا أن نجد فى فيلم واحد من أعماله المبكرة، تحية لعالم وأسلوب جودار وتروفو، وتحية لعالم هيتشكوك وهاوارد هوكس أساتذة الأنواع الكبار.
يمكن الحديث عن «سينما سكورسيزى» ذات السمات المحددة، على تنوع عوالمها وشخصياتها، وأبرز تلك السمات ولع سكورسيزى بتأمل أبطال مأزومين، يعانون من صراعات داخلية حادة، تعكس فى الحقيقة صراعات سكورسيزى نفسه، والذى ولد فى نيويورك لأبوين من أصول إيطالية.
كان رساما موهوبا، ولكنه أراد أن يصبح قسيسا، ثم جاءت السينما لتحقق له فرصة تقديم عالم يعرفه، تتأرجح شخصياته بين الروح والجسد، وبين الكنيسة والعصابة، وبين جحيم الآخرة، وجحيم الشوارع.
إنها سينما نقيض البطل، الذى تتحكم فيه الأقدار، والذى يحاول الخلاص، شخصياته تراجيدية بامتياز، وضعت وسط بيئة مضطربة، فتحاول أن ترتدى أقنعة للبقاء، ولتحقيق الثراء.
تتمرد وتمارس العنف، ولكنه يقدمها من الخارج والداخل، ويعرى هشاشتها، فيقدم أفرادها وهم يواجهون قوة أكبر منهم، وخصوصا عندما يوضعون فى مواجهة المؤسسات، مثل عصابات المافيا.
ليس صحيحا أنه صنع أفلامه عن المجتمع الإيطالى الأمريكى فقط، وليس صحيحا أن أفلامه تدور فقط فى عالم العصابات والجريمة، فالكتاب يؤكد أنه كان يسير وراء أفكاره وأسئلته وهواجسه، وليس وراء مكان أو مدينة بعينيها.
ورغم ارتباط أعمال شهيرة له بمدينة نيويورك مثل «سائق التاكسى»، و«عصابات نيويورك»، فإنه يطرح أسئلته أيضا عبر عوالم وأماكن مغايرة، مثل سؤال الإيمان المؤرق، فى فيلميه الشهيرين «الإغواء الأخير للمسيح»، و«الصمت».
يلتقط المؤلف بذكاء حضورا لافتا لشخصية «البادرون»، أو الرجل الكبير، فى أفلام سكورسيزى، وبتنويعات مختلفة، إنه بديل الأب، والرجل الذى يعطى الحماية لأتباعه، كما تظهر ثنائية غريبة هى المرأة كعذراء، فى مقابل المرأة كعاهرة.
حتى العصابات التى تظهر فى أفلام سكورسيزى، تبدو كما لو كانت عائلة بديلة، لها نظامها وقواعدها، والعنف والدماء والقتل والخيانة، كلها عناصر يمكن أن تقرأ كنتيجة لغياب الأخلاق.
أما الشخصيات التى تحقق الثراء والنجاح، فلا تستطيع أن تسيطر على تناقضاتها، وتسقط فى النهاية، كما فى فيلميه المعروفين: «الثور الهائج»، و«ذئب وول ستريت».
من حيث الأسلوب، يرصد المؤلف عناصر واضحة، مثل اللقطات الطويلة، وبراعة سكورسيزى فى اختيار ممثليه، واعتماده على الارتجال فى بعض المشاهد، واستخدامه لصوت السارد المعلق، وعبر شخصيات مختلفة أحيانا، ودور الموسيقى المحورى.
قد يلجأ أحيانا إلى كسر الإيهام، والابتعاد عن الحبكة التقليدية، واستخدام المونتاج بطريقة صادمة ومقصودة، وكلها أمور تؤكد مدى استيعابه لاتجاهات الحداثة فى السينما الأوروبية.
ما يقدمه الكتاب من تحليل تفصيلى للأفلام حافل بالمعلومات، ويؤكد بوضوح أن المخرج الكبير يتمتع أيضا بروح عملية مثابرة، تجعله يعود بحماس إلى مشروع قديم، وتجعله قادرا على ترويض ظروف الإنتاج لصالحه. كتابٌ شيق ومرجعى لناقد كبير عن مخرج استثنائى.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات