ملكة الاختلاف - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ملكة الاختلاف

نشر فى : السبت 10 ديسمبر 2022 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 10 ديسمبر 2022 - 9:05 م

تزِن نفسها ثلاث مرات فى اليوم، تراقب محيط الخصر حتى لا يزيد قياسه على 45 سنتيمترا، وتمضى ساعات لكى تصفف شعرها الذى يصل إلى قدميها، وقد استعانت بمتخصصة لكى تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه. كانت تلك الأمور هى الهاجس الأول لإمبراطورة النمسا وملكة المجر السابقة إليزابيث، زوجة الإمبراطور فرانز جوزيف الأول، المعروفة بـ«سيسى»، والتى ولدت لآل ويتيلسباش البافاريين الملكيين عام 1837. وهى بطلة فيلم «كورسيه» (Corsage) أو المِشَد، الذى عُرِض أخيرا بالقاهرة فى إطار برنامج بانوراما الفيلم الأوروبى، وكان قد حصل على جائزة أحسن أداء تمثيلى فى مسابقة «نظرة ما» بمهرجان كان السينمائى فى مايو الماضى، وهو من إخراج النمساوية مارى كروتزر. هذه الأخيرة التى بدأت مشوارها الفنى قبل عشر سنوات وفى جعبتها خمسة أفلام وعدة أعمال درامية تليفزيونية، تبلغ 45 عاما، أما بطلة الفيلم فيكى كريبس فهى فى التاسعة والثلاثين من عمرها، وربما يكون ذلك هو ما جمعهما على تناول شخصية الإمبراطورة «سيسى» التى سبق وقدمتها عدة أفلام ومسلسلات، أشهرها فيلم يرجع إلى الخمسينيات من بطولة رومى شنايدر، التى جسدت دورها فى مرحلة مبكرة عند دخولها للبلاط وهى فى السادسة عشرة. أما فيلم اليوم فتبدأ أحداثه مع بلوغ الإمبراطورة عامها الأربعين، وبالتالى يصور لنا كل الضغوط التى تجابهها امرأة فى مرحلة النضج، خاصة أنها كانت أيقونة للجمال ومثالا تحتذى به فتيات أوروبا فى القرن التاسع عشر. وهى لا تزال حتى الآن رمزا من رموز النمسا، مثلها مثل موزار، إذ تعتلى صورهما الكثير من الهدايا التذكارية التى يمكن شراؤها من المتاحف والمطارات.
الصحافة فى وقتها كانت تتابع ظهورها وتنتقد تمردها على التقاليد وتصرفاتها الغريبة التى طالما أزعجت والدة زوجها وأحرجت هذا الأخير، رغم حبه لها، إلا أن طبيعتهما كانت مختلفة تماما، فهو كلاسيكى وجاد وصارم، أما هى فتعتبر القصر سجنا ذهبيا والزواج مؤسسة فاشلة.
• • •
نرى من خلال الفيلم كيف كانت تضطر لكبح جماح نفسها خارجيا فقط من أجل الحفاظ على صورتها وجمالها، تأكل القليل جدا كى لا يتعدى وزنها خمسين كيلوجراما، رغم أن طولها يزيد على المتر وسبعين، تمارس الرياضة بانتظام وتبدع فى لعب الشيش وركوب الخيل. لكن على صعيد آخر نتابع نزواتها وعلاقاتها الملتبسة، تدخن السجائر أحيانا فى العلن، ما لم يكن مقبولا فى البلاط، وتسافر من بلد لآخر وتتغيب فترات طويلة عن أداء واجباتها الملكية. تتردد كثيرا على المجر، وقد كانت من المساندين للقومية الهنجارية فلعبت دورا أساسيا فى إنجاح التسوية بين النمسا والمجر عام 1867، التى منحت البلد الأخير الحق فى الحكم الذاتى مع كون أباطرة النمسا ملوكا للمجر.
التركيبة المعقدة للشخصية جذبت كلا من المخرجة والممثلة التى جسدت دور الإمبراطورة الحائرة ببراعة ويسر، جعلتانا نغوص معهما أكثر فى تفاصيل حياتها وتناقضاتها. نقارن بينها وبين ملكات وأميرات أخريات متمردات مثل ديانا ومارى أنطوانيت ونهايتهما التراجيدية. نقارن أيضا بينها وبين نساء كثيرات من حولنا بعد الأربعين، وهن أسيرات عمليات التجميل والسعى وراء الحُسن الدائم الذى لا يذبل مع الزمن. حرمان وعذاب من أجل الحفاظ على صورة مثالية، وهو ما دفع الإمبراطورة إليزابيث إلى تغطية وجهها بقطعة من قماش الدانتيل أو التل الأسود الخفيف بعد سن الخامسة والثلاثين.
• • •
سيدة ورثت التمرد والاختلاف عن أبيها الذى أخذت عنه كل خصاله، تهوى الشعر والأدب وتعشق الحرية، تم حبسها فى «قصر من ذهب»، داخل «كورسيه» ضيق، تشد خيوطه كل يوم كى تحكمه على خصرها. يكتم على أنفاسها، لا يترك لها مساحة للانطلاق. ومن هنا جاء عنوان الفيلم، فهذا الِمشَد الذى شكل جزءا رئيسيا من زى النساء بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، ظل رمزا للخضوع والضعف وتقييد الحركة حتى تطور المجتمع وصار للنساء دور مختلف خاصة مع الحرب العالمية الأولى، إذ كان عليهن تعويض غياب الرجال. أما حاليا من يخترن لبس «الكورسيه» يكون ذلك لإبراز مفاتنهن والتأكيد على أنوثتهن. الأمور تتغير وتتبدل، لكن يظل وجود الأشخاص المختلفين عن السائد، الذين يخرقون القواعد، غير مقبول.
يطرح الفيلم فكرة «المعايير»، ما هو الطبيعى؟ وما هو المسموح به؟ تقف الإمبراطورة خلال زيارتها للمستشفيات أمام الأقفاص التى وُضِع فيها «المجانين» وهم مقيدون بالسلاسل. تنظر إليهم مليا، وهى تعلم أنها تشبههم فى مكان ما وعلى أكثر من مستوى. ثم تمضى إلى حياتها التى تحاول كسر رتابتها بالهروب والسفر والعلاقات، إيقاع الفيلم يوحى بهذا السأم، وكادرات التصوير تتماشى مع البعد «الأسطورى» للشخصية خلال رحلتها نحو النهاية.
نراقب الإمبراطورة وهى تتحرر. تترك نفسها على سجيتها. تأكل ما تحب. تقص شعرها الطويل. ترتحل بعيدا بعدما نظمت أمور عائلتها. اختارت المخرجة أن تكون موسيقى الفيلم حديثة، لجأت إلى الأغنيات التى كانت تستمع إليها وهى تكتب السيناريو، فالبطلة ممكن أن تنتمى لأى عصر، ومأساتها قد تتكرر. فضلت كروتزر عدم الالتزام بالنهاية الواقعية للشخصية التى اغتالها أحد الأناركيين الإيطاليين فى جنيف عام 1898 وهى فى سن الستين. تركت النهاية مفتوحة، حين ألقت الإمبراطورة بنفسها فى البحر من أعلى السفينة، قد تكون انتحرت ــ وهو ما كنا نتوقعه طوال الفيلم ــ وقد تكون انطلقت إلى عالم مختلف، فألقت بنفسها فى اليم.

التعليقات