زيارة جديدة إلى برقاش - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 2:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زيارة جديدة إلى برقاش

نشر فى : الأحد 10 سبتمبر 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : الأحد 10 سبتمبر 2023 - 6:50 م

حين حلت الذكرى الرابعة لرحيله فى فبراير (2020) دعتنى السيدة قرينته أن نطل معا على بيته الريفى فى برقاش حتى أرى ما طرأ على المكان من إصلاحات حاولت أن تعيده إلى صورته القديمة قبل أن تنال منه حرائق مروعة يوم فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«النهضة».
ثم أتاحت الظروف مؤخرا زيارة ثانية بدعوة أخرى لتصوير شهادة عن «الأستاذ»، عصره ومعاركه، فى عين المكان الذى شهد حواراتنا المتصلة على مدى ستة عشر عاما، من ضمن فيلم تسجيلى أنتجته أسرته يغلب عليه الجانب الإنسانى.
من المقرر أن تعرض نسخة مختصرة فى مئويته (23) سبتمبر الحالى، التى يحتضنها متحف الحضارة حيث الإرث المصرى القديم بجلال أثره.
بمناسبة المئوية أنتجت محطة «الوثائقية» المصرية فيلما وثائقيا آخر من ثلاثة أجزاء عن تجربة وإرث «محمد حسنين هيكل».
فى ذلك الفيلم الوثائقى المطول تحدثت شخصيات دولية وعربية ومصرية، أبرزها «أندرو نايت» أحد أبرز الصحفيين البريطانيين فى العصر الحديث، الذى ترأس مجلة «الإيكونوميست» الاقتصادية الشهيرة قبل أن يترأس بفضل صيته فى الإدارة الصحفية مجموعة صحف «التايمز»، و«الأخضر الإبراهيمى» وزير الخارجية الجزائرى الأشهر، وحال رحيل «طلال سلمان» مؤسس صحيفة «السفير» اللبنانية بعد إجراء جميع الترتيبات من مشاركة مماثلة.
فى الفيلمين التسجيليين تحدثت لأول مرة السيدة قرينته «هدايت تيمور» عن تجربتها الإنسانية، قصة زواجهما والأيام الصعبة والحلوة معا.
بقدر ما هو ممكن ساهمت بالاقتراح والمشاركة المباشرة بأمل إضاءة بعض الجوانب المجهولة فى سيرة «صحفى القرن».
بعد عشر سنوات من حرائق برقاش تجولت الكاميرات فى المكان وسجلت بعض أثار الجريمة التاريخية رغم الإصلاحات التى جرت.
اكتسب ذلك البيت الريفى قوته الرمزية من شخصية صاحبه، ومن اجتماعاته التى ضمت على امتداد العقود شخصيات دولية وإقليمية ومصرية رفيعة ومؤثرة، ومن الحملات المتصلة عليه.
فيما نُسب للرئيس الأسبق «حسنى مبارك» تعليقا على الأجواء التى كانت تحيط «هيكل»: «لم يعد ينقصه إلا أن يضع علما خلفه، وهو يتحدث أمام الشاشات، أو يستضيف اجتماعات فى برقاش».
قبل فض الاعتصامين، حيث كان متواجدا فى سردينيا الإيطالية، وصلته أنباء عن حملة تحريض تستعدى بقوائم سوداء ضمت اسمه وكلام عن أدوار قام بها، أو وساطات تولاها بين الفرقاء، بينما كان بعيدا يقضى إجازته الصيفية.
سألته فيما يشبه الإلحاح أن يتمهل بعض الوقت قبل الوصول إلى القاهرة ويدير دفة عودته إلى اتجاه آخر عند الساحل الشمالى بالقرب من الإسكندرية.. فـ«عند انفلات الأعصاب لا أحد بوسعه أن يتوقع ما قد يحدث».
كعادته أخذ وقته فى التفكير قبل أن يستقر قراره على أنه من الأوفق أن يكون قريبا من الأحداث يتابعها من الساحل الشمالى بعيدا عن العاصمة وكمائن الخطر فيها.
فى ظهيرة الأربعاء (١٤) أغسطس (2013) اقتحمت مجموعات مسلحة الباب الرئيسى لبيت برقاش، الذى لا يوجد عليه ما يشير إلى صاحبه، بعد أن أحرقت بزجاجات المولوتوف حديقته الأمامية.
أخذت تدمر كل ما فيه من أثاث ولوحات وذكريات، أحرقت حدائقه بأشجارها ونباتاتها، واستحال البيت أطلالا تساقطت جدرانه بتفجيرات أنابيب غاز.
لم تكن هناك شرطة تردع، فمقراتها تعرضت لاعتداءات فى موجة عنف شملت دور عبادة وعدالة ومنشآت عامة ومبانى حكومية.
لم يكن فى علم الذين خططوا لإلحاق الأذى المادى والمعنوى بصاحب البيت أن الخسائر أفدح مما تصوروا.
«أول ضربات الكوارث أن الكتلة الرئيسية من الكتب النادرة والوثائق التاريخية، التى لا سبيل لتعويضها راحت» ـ على ما قال واصفا النتائج المروعة.
بعد الحرائق بأيام أرسل فريقا صور كل شىء تهدم وخرب، وكانت الصور مفزعة غير أنها لم تعكس حجم الخسارة الفادحة التى تتجاوز الرجل إلى الذاكرة العامة.
من بين ما راح مجموعات الوثائق الدولية والإقليمية حول مصر وتاريخها المعاصر مرتبة بطريقة علمية، لكل وثيقة ثبت يحدد موقعها وموضوعها، نشر أغلبها فى كتبه، أو استخدمها فى سياقات ما روى.
كان يدرك قيمة الوثائق ويعرف كيف يقرإها، لا تمنعه تفاصيلها من أن يصل إلى جوهرها وأن يضع الأساسى فيها داخل سياق تتسق فيه رواياته للتاريخ، أن تكون «كل كلمة بوثيقة».
«عندما تتاح الوثائق أمام الباحثين والمؤرخين والصحفيين فإنه قد تكون لهم وجهات نظر أخرى فى قصة ما جرى من صراع على المنطقة بقدر ما تتيحه العصور الجديدة من معلومات ورؤى لم تكن متوافرة فى وقتها».
الكتب والرسائل والأوراق النادرة التى أفلتت من الحرائق أودعت فى مكتبة الإسكندرية.
طوال الوقت طاردته الأسئلة عن مصير ما لديه من وثائق، كتب وألح كثيرون على عودتها إلى مصر، وهو نفسه فى مقدمات مجموعة كتبه عن حرب الثلاثين عاما فى طبعاتها الجديدة أخذ يتحدث عن الوثائق بمداخلات مختلفة، قبل أن يعترف بأنها باتت عبئا على مشاعره.
لم يكن يعرف أحد أين وثائق «هيكل» حيث أحاط سره وراء ستائر كثيفة من الكتمان، باستثناء عدد محدود للغاية بمقتضى الحاجة إلى أدوارهم، أبرزهم سيدة تعمل فى مكتبه شبه مجهولة لمن يترددون عليه.
ذات يوم أوشك أن يبوح لى بسر الأسرار فى حياته.
قاطعنى مبتسما وأنا أتحدث عن مأمن وثائقه فى لندن قائلا: «ليست فى لندن».. «هذا كلام شائع لكنه ليس صحيحا»، «أريدك أن تتأكد أنت بالذات من أنها ليست فى لندن».
كانت تلك نصف مصارحة لم يستكمل نصفها الآخر، ربما جال فى خاطره لحظتها بيت شعر قديم يحفظه ويستعيد حكمته دوما: «إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه.. فصدر الذى يستودع السر أضيق».
خامرتنى ظنون أنها قد تكون فى مأمن أوروبى آخر، حتى اكتشفت فى الزيارة الأولى لبرقاش بعد رحيله ما لم يخطر ببال أحد، أنه كان يحفظها هنا طوال الوقت، لم تتحرك كتلتها الرئيسية يوما من موضعها فى «بيت الورد» الأقرب أن يكون كوخا سويسريا حتى جرى النيل منها.
يقال عادة «إن الحذر لا يمنع قدر».
كانت تلك قمة المأساة فى قصة «بيت برقاش»، الذى كان يوصف يوما بـ«العاصمة الموازية».