شَــال - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شَــال

نشر فى : الجمعة 10 مارس 2023 - 8:10 م | آخر تحديث : الجمعة 10 مارس 2023 - 8:10 م
حتمًا يتباين الناس في مسالكهم وإن تطابق ما يؤدون من أعمال، فإن اشترك اثنان في إنجاز هدف واحد، وأصر كلٌّ على طريقته وأراد فرضَ أسلوبه واستحكم الخلاف؛ كان الحلُّ الحاسم الذي يقي شرَّ التشاحن والعِراك: "شيل دا من دا يرتاح دا عن دا"، والمعنى أن يفترقا فينفرد كلٌّ منهما بصنيعه، وينأى عن الآخر. المأثور شائع الاستعمال في أحاديثنا ومواقفنا اليومية؛ لكن صوابَ النطق أن تُحذَف الياءُ ويُكسَر حرفُ الشين ليصبح فعل الأمر "شِل".
• • •
يأتي الفعلُ شَالَ في قواميس اللغة العربية بمعنى رَفَع، وشالت المرأةُ حقيبتها على كتفها أي رفعتها، أما المصدر فشَيلًا ومشالًا، والفاعلُ شائلٌ وفي غالب الأحيان نقول "شايل" للتخفيفِ على اللّسان. إذا دُعيَ المَرءُ شيَّالًا؛ فمُبالغةٌ تعني أنه كثيرَ الشَيل، والشيَّال في المعاجمِ هو مَن يَمتهِن رفعَ الأغراضِ للناسِ لقاء ثمنٍ يتفقُ عليه، وتلك في ذاتها مِهنةٌ صَعبة تستنزف القوى، فتقصمُ الظَّهرَ وتحني الجَّسدَ ما طالت به مُمارستُها.
• • •
أبرزُ الشيَّالين في الدراما المصرية هو "حسن" أو الفنان فريد شوقي؛ بطل فيلم "صاحب الجلالة" الذي أخرجه فطين عبد الوهاب ليعُرَضَ عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، وقد ضمَّ بين طاقمه القديرين سميرة أحمد وفؤاد المهندس. ما بين الشيَّال حسن والسُّلطان مارينجوس الأول مسافةٌ شاسعة؛ قطعتها الظروفُ الاستثنائية في دقائق، فساوت الرؤوسَ وأنصفت مَغبون الحقوق.
• • •
ليس كلُّ ما يُشال مرئيًا ملموسًا؛ إذ ربما يشيل الواحدُ من صاحبٍ خَذله، فيكون بينهما عتابٌ وموقفٌ عسيرٌ، وقد يشيل أيضًا معروفًا، فيحمل لمن صنعه فيه التقدير ويُحاول ما استطاع أن يردَّ له الدَّين، وربَّ شيلة تقضُّ النفسَ وتوجِعها وأخرى تُسري عنها وتطربها.
• • •
إذا شالَ الميزانُ فقد ارتفعت إحدى كفتيه وهبطت الأخرى. الأصلُ أن تتساوى الكفتان، والعدلُ أن تكونا على ارتفاعٍ واحد؛ فإن اختل توازنُهما، مالت الأحوالُ، واحتاجت من يقومّها، ومن يُعيدها مُعافاةً إلى نصابها.
• • •
تقول المراجع اللغوية عن الشَّال الذي ترتديه على ما جرت العادة النساءُ؛ إنه ملحفةٌ من القُّماش الخفيف، تُوضَع على الرأس ثم تُترَك لتنسدل على الأكتافِ في أناقة وجَمَال. تقول المَراجع أيضًا إن الرجالَ والنساءَ في استعمال الشَّال سواءٌ، وإنه علامةُ احترامٍ ووقارٍ وتأدُّب؛ يتحلَّى بها المَرءُ ما جاء في جَمعٍ من الناس.
• • •
ينخرط المرءُ في مناح شتَّى من الحياة، يتحرك هنا وهناك؛ لكنه يقفُ مكانه بعضَ الأحيان ويُقرر أن يكفَّ عن أداءِ دورٍ من الأدوار. يصفه الناسُ حينئذ بأنه شالَ يدَه، والقصد أنه لم يعد مُتورطًا ولا مُتحمِلًا للمسئولية التي اضطلع من قبل بها.
• • •
كثيرنا قد يأخذ خطوة، ويصنع مبادرة، وفي ذهنه يرتسم مقابلها. المنفعة المتبادلة ترسي مبدأ السوق العتيد: "شيلني وأشيلك"، والمَجاز هنا واضح؛ فثمَّة فائدةٌ مُزدوجة، ولا يُمكن لطرَفٍ بعينه أن يشيلَ دومًا، فيما يحظى الآخر بالراحة والاسترخاء.
• • •
إذا لم يَصفُ المرءُ ويلين بعد كدر؛ قيل إنه "شايل في قلبه". الشائل في قلبِه غالبًا ساكتٌ، لا يبوح ولا يُفصح، إنما يحتفظ لنفسِه بما أوجعه ويكتمه عمَن حوله. ربما يشيل المرءُ أيضًا "طاجنَ سِتّه"، وذاك مأثور شعبيٌّ شهير؛ ففي الماضي كانت الفتاةُ تدخلُ اختبارَ الطهو وتعدُّ الطواجنَ، ثم تحمل صنيعها إلى جدَّتها مُنتظرة المديح؛ لكنها تتلقى دومًا النقدّ وربما الذمَّ والسُّخرية؛ وقد صار الطاجنُ الذاهبُ إلى الجدَّة علامةً على النكد الوشيك.
• • •
غنى إيمان البحر درويش "أشيلك يا ضناي شيل وأعدي بك ظلام الليل" في فيلم "طير في السما" من إنتاج عام ألف وتسعمائة ثمانية وثمانين. الأغنية من كلمات علي محمدي، وهي من أكثر الأغاني إثارة للشجن، حالها حال كثير ما قدَّم إيمان البحر في مشواره، ولا تغيب عن الذهن رائعته الخالدة "نِفسي".
• • •
كلما تعقدت الظروف وتدهورت الأوضاع وتلبدت الأجواء، كلما اغتم الواحد وغام أفقه وشال الهم؛ وما أثقله من مشال؛ فالمرء لا يعدم وسيلة يشيل بها منضدة أو مقعدًا؛ لكنه قد يعجز عن شيل الهموم، فيركع أمامها مستسلمًا مهزومًا. الشيلة الثقيلة تكني مسئولية صعبة مرهقة، والشيلة اسم المرة الواحدة من الفعل شالَ، وهي في الوقت ذاته قطعة ثقيلة من الحديد يمتحن بها المرء قوته.
• • •
قد تأتي الحياةُ بأتراحها مُبكرة، فيجد صغيرُ السِنّ غضُّ العمر نفسَه حاملًا مسئولية كبيرة تفوق خبراته في الحياة، وإذ يُشاهد الناسُ كفاحَه للمُضي قدمًا فإنهم يثمنون صنيعه، وإذ يشفقون مما يواجه؛ يتهامسون واصفين حاله: "شال الهمّ بدري"، فإن أصابه الإرهاقُ وجاء من يَحملُ عنه بعض الواجبات؛ فقد شاله في تعبه.
• • •
أحيانًا ما يبدو الواحدُ في حالٍ مُزرية، يغمُره التعبُ ويُبطئ حركتَه ويُضفي عليها ثِقلًا وقد يَصفُ ما يشعر به قائلًا إنه عاجزٌ عن شيل نفسه، والتعبير قد يكون دلالةً على قربِ انهياره، تَتخلخَل المَفاصلُ ويرتعشُ البَدن، وتنكُصُ الساقان عن حمله؛ ليسقط تحت وطأةِ ضربات لا يتمكن من صدّها.
• • •
في عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر، غنَّى العبقريّ سيد درويش من ألحانِه وكلماتِ العظيم بديع خيري: "إن كان شيل الحمول على ضهرك يكيدك؛ أهون عليك يا حُر من مَدة إيدك".
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات