تَعب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 8:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تَعب

نشر فى : الجمعة 10 فبراير 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : الجمعة 10 فبراير 2023 - 8:20 م
لما انتهت المُناوبةُ؛ كان التَّعبُ قد نال من الطبيبةِ التي لم تَزل بعد في مُبتدأ الرحلة. مَصدر تعبها لم يكُن عدد الحالاتِ التي باشرتها، ولا الساعات الطويلة التي قضتها في مكانٍ تنقُصه شروطَ الوجود الآدميّ؛ إنما كونها لم تُمارس مِهنتها منذ استلمَت العَمل. تلخَّصت وظيفتُها الوحيدةُ في الدَّوران بين المَباني والمَكاتب والحجرات؛ بحثًا عن تقارير وتحاليل وفحوصات أجراها المرضى؛ لكنها لعيوبٍ في نظامِ الرَّبط بين الحواسيب، تتوه هنا وهناك وتضلُّ الطريق.
• • •
تَعِبَ الشَّخصُ أي أصابه الكَللُ وأضنته المشقَّة، يُلفَظ صحيحُ الفعلِ بفَتح التاء؛ لكننا نستخدمُه في كلامِنا اليومي وننطقه بكسرِها فنقول على سبيل المثال: تِعِبت من المشوار، وبعيدًا عن النُّطق فلا أسهلَ من انتحال التَّعب في مُواجهة كلّ لوم أو عِتاب؛ إذ هو عذرٌ مَقبولٌ يحمي من تبعاتٍ كثيرة وعواقب قد تكون مُؤلمة. إذا قيلَ تَعبَان؛ فصِفةٌ مُشبهة تدلُّ على الثُّبوت، والكلمةُ بدورها غزيرة الاستخدام في لغتنا الدارجة، لا يخلُ منها على مدار السَّاعة حديثٌ؛ فكلنا ما بين تَعبان وتَعبانة. التَّعبُ مُعمَّم، والاسترخاءُ في ظلّ النكباتِ المُتتاليةِ عسير.
• • •
التعبُ نقيضُ الرَّاحة، وهو حالٌ تتناقصُ فيها قدرةُ الكائن الحَيّ على العَمل ويتراجع أداؤه، ربما لاضطرابٍ في النوم أو بذلِ مِقدار هائلٍ من الجهد. ربما كان السببُ أيضًا تراجُعًا في الصِحَّة واختلالًا في كفاءة العقل، وغالبُ الظنّ أن الهمَّ الثقيلَ يدكُّ الجَّسد، ويجعله في إرهاقٍ دائم؛ حتى وإن لم يستهلكه صاحبه.
• • •
أنشدَ فيلسوفُ الشُّعراء أبو العلاء المعري: تعبٌ كلُّها الحياة .. فما أعَجَبَ إلا مِن رَاغبٍ في ازديادِ، والحقُّ أن الراغبينَ كُثر رغم ما في حيواتِهم مِن مَرارةٍ وضَيم؛ يُكافحون لنوَالِ كسرةِ خُبز، ويتجلَّدون في مواجهةِ البؤس، ويدبّرون مَعيشتهم على غيرِ ما يطمحون، ويُقتّرون على أنفُسِهم تقتيرًا، ولا يفتأون رغمَ التَّعبِ يتمنون دوامَ السَّتر وامتدادَ العمر.
• • •
متاعبُ الدنيا كثيرةٌ ومفردها مَتْعَبَة؛ أمضاها شُعور بالغُبن، وأخفُّها عرقٌ في سبيل تحقيق الأمل. يتغاضى المرءُ عن معظم متاعب العمل فتمضي الحياة؛ أما أن يجد في رفقتِه زميلًا مُتعبًا، صعبَ المَعشر، عصيًا على التفاهُم؛ فمِن عاديات الزمن.
• • •
ثمَّة أتعابٌ للمُحاماة؛ والقَّصدُ ما يتلقَّون مُقابل إنجاز أعمالِهم. الأتعابُ جمع تَعَب وفي استخدامِ صيغةِ الجَّمع إشارةٌ لما يتعرَّضون له مِن مِحَن؛ إذ تُصادفهم عراقيل جَمَّة، ومُنغّصات لا أولَّ لها ولا آخر؛ تلقى إليهم الأزماتُ والنُّوازِلُ، ويكون عليهم إيجاد الحَلّ.
• • •
فيما تذكُر الأمَّهات؛ فإن تَعَبَ الوِلادة لا يكافئه تَعبٌ آخر مهما كانت شدَّته، لكن النساءَ لا يفتأن يحبلن ويلِدن مَرةً تلو الأخرى، وإن تأخَّرن لجأن لاستشارة طبيب وعشر؛ فمجيء الطفلِ عندهن، لا يضاهيه أمر.
• • •
سَمعتُ كثيرًا ذاك التعبيرَ المُدهِش: تَعَب في قلبك. ترمي به امرأةٌ في وَجه من ضايقها وناورها وأصابها بالزَّهق. يكاد القولُ أن يكونَ في مَقامِ الدعاء؛ بأن يُصاب من أهداها النكدَ، وأن تكون إصابته في مَوضِع المَشاعر والأحاسيس. بعضُ المرَّات يهتفُ شخصٌ بآخر: تَعَبت قلبي معاك؛ وأصلها "أتْعَبْتُ"، والغرضُ أن يَشعرَ هذا الآخر بمدى ما سبَّبَ من عِبءٍ نفسيّ.
• • •
يشكُر رجُلٌ صديقَه على ما قدَّم له مِن خدمات، فيقول المَشكور في مَوَدَّة ظاهرة: تَعَبَك راحة. العبارة الموجزة تعني أنه فعل ما بوسعه عن طيبِ خاطر، وأنه لن يتوانى عن تكرار فعله مرة ثانية وثالثة. العلاقةُ بين الطرفين في هذه الحال تبدو من المتانة بمكان، خاصة إن تأزمت الأوضاع العامة؛ فدفعت الناسَ للتفكيرِ والتدبيرِ والعملِ في إطار مَصالِحهم الشَّخصيةِ الضَّيقة، لا مَجال ساعتها لخدمةٍ إلا أن تقابلَها أخرى، ولا مَساحة في الصدور تسع بشرًا وإن كانوا من الأقربين.
• • •
إذا ضجَّ الواحد من جدلٍ عقيم ونقاشٍ بيزنطيّ لا يصلُ هدفَه، ولا يتوقَّف عند حدود؛ صاح فيمَن يجادله: ما تتعبنيش. النفي بحرفِ الشين في نهايةِ الفعلِ من القَّواعد غير المَكتوبة للهجتنا المِصريَّة؛ نقلناها لأقراننا في البلدان المُحيطة، فصارت شائعةً مَفهومةً منذ زَمن طويل، والحقُّ أن اجتماعَ الفعلِ وضَميريّ الفاعلِ والمَفعولِ به وأداةِ النَّفي في لَفظةٍ واحدة؛ لمِن عبقرية الاشتقاقِ والاختزالِ والتَّكييف.
• • •
بعضُ الأحيان يكونُ التَّعبُ مُرادفًا للمَرض؛ فإذا توعَّك المرءُ ولزم بيتَه أو فراشه، وسأل عنه الزملاء؛ كان الردُّ أنه تعبان. في أحيان أخرى يبدو الشَّخصُ في أفضلِ حال؛ لكنه يجيب السؤال عن بأنه: والله تعبان. يفهمُ السائلُ في العادة أن الأوضاعَ ليست على ما يُرام، وأن العِلَّة لا تكمُن على الأغلبِ في الجَّسد، بل في مناطق أخرى أكثر خطورة؛ فجيبٌ خاوٍ، ومَعدةٌ يقرصها جُوع، وأطفالٌ لا تُلبَّى احتياجاتهم، كلُّها مِن بَواعِث التَّعب الأكيد.
• • •
ثمَّة مأثورٌ شعبيٌّ يقول: تَعَبُ ساعةٍ ولا كُلّ ساعة؛ والقصد أن يضغطَ المَرءُ نفسَه، فينتهي مما يؤرقُه ولا يؤجل الفعلَ لوقتٍ لاحق. الأفضلُ دومًا أن تُؤدى الأشياءُ في وقتِها مهمًا تكلَّفت من جهد، فالتأجيلُ له أثرٌ، والأثرُ قد يغدو مُمتدًا، مُزمنًا، وفي أحوال مُؤسفةٍ قد لا يزول.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات