عن الشيخ سيد درويش في ذكراه - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الشيخ سيد درويش في ذكراه

نشر فى : السبت 9 سبتمبر 2023 - 9:00 ص | آخر تحديث : الأحد 10 سبتمبر 2023 - 5:24 م
(1 ) لا أذكر أننى سمعت شيئا منسوبا إلى الشيخ سيد درويش قبل العام 1985 أو 1986. لم أكن أكملت العاشرة بعد. لكننى أذكر جيدا أننى شاهدت على شاشة التليفزيون فيلما اسمه «تزوير فى أوراق رسمية»، كان أحد أبطاله مطربا شابا اسمه إيمان البحر درويش، قدم مجموعة من الأغنيات المدهشة الرائعة (دنجى دنجى، ومحسوبكو انداس صبح محتاس، وأهو ده اللى صار.. إلخ) وهى الأغانى التى ما كدت أسمعها حتى فتنت بها، أسرنى اللحن أولا قبل أن أعى الكلمات التى لم أتمكن من فك شفراتها كلها فى حينها.

كانت الأغنيات المقدمة من إرث سيد درويش العظيم؛ صحيح أنها كانت بإيقاع وتوزيع جديد مختلف نسبيا عن صورتها الأولى، لكنها فى المجمل حافظت على سمت وبصمة سيد درويش «التلحينية» المميزة، وبدا فيها تجديده العبقرى فى بنية الموسيقى العربية الحديثة.
كان هذا هو اللقاء الأول (ولم يكن الأخير بطبيعة الحال) بالشيخ سيد درويش، صحيح أننى شاهدت بعد ذلك فيلما بالأبيض والأسود عرض على شاشة التليفزيون قام ببطولته الراحل كرم مطاوع جسد فيه شخصية الشيخ سيد (وأدى دوره فى مرحلة الصبا الفنان هانى شاكر)، لكنى لم أعول عليه كثيرا فى مزيد من التعرف والاكتشاف على سيرة هذا المصرى العبقرى المبدع، الذى كان شعلة متوهجة من الفن والإبداع والحس الوطنى والإنسانى والاجتماعى.

(2 ) لكن إدراكى لهذه القيمة الفنية والوطنية والثقافية ووعيى بها، لم يتبلور بشكل كامل إلا بعد أن قرأت ما كتبه الأستاذ نجيب محفوظ عن الشيخ سيد درويش فى مذكراته، كتب نصا يقول: «وفى اعتقادى أن سيد درويش لو امتد به العمر لفعل ما فعله محمد عبدالوهاب، وسار فى نفس الطريق، خاصة أنه كان ينوى السفر لدراسة فن الأوبرا فى أوروبا. ومن المعروف أن سيد درويش كان ثائرا على الموسيقى التقليدية السائدة فى أوائل هذا القرن (يقصد القرن العشرين)، ولديه رؤية عصرية متطورة، ويميل إلى أسلوب الأغانى الجماعية والاستعراضية، كما وجد نفسه فى «الأوبريت» المسرحى»..
وقد حكى عميد الرواية العربية أيضا عن والدته تلك السيدة الأمية العظيمة أنها كانت مخزنا للثقافة الشعبية، وكانت مغرمة بسماع أغانى سيد درويش، يقول محفوظ «وبالنسبة لمظاهر التسلية فى الجمالية، فإنها كانت متعددة، فى بيتنا يوجد «فونوغراف» لسماع الأغانى، ولم يخل بيتنا أبدا من «الفونوغراف» حتى دخل «الراديو». كانت أغلب الأسطوانات لأغانى سيد درويش، لأن والدتى كانت من عشاق صوته وألحانه».
(راجع مذكرات نجيب محفوظ، رجاء النقاش، دار الشروق)
(3 ) كانت أسطر الأستاذ نجيب محفوظ السابقة (قرأتها فى تسعينيات القرن الماضى) هى المدخل الحقيقى لى للتعرف على قيمة سيد درويش، وعظم دوره وعميق أثره، وما قدمه للموسيقى العربية الحديثة، فضلا على مكانته النضالية البارزة جدا فى ثورة 1919، وقد توفى فى ذروة مدها الأول عام 1923 ولم يكن أكمل الثانية والثلاثين من عمره.
تلك الفترة التاريخية الذهبية التى شهدت فيها مصر حالة انصهار وطنى جماعى ليس لها مثيل؛ حين بلغ الوجدان ذروته، فيلعلع صوت الشيخ سيد درويش بأدواره وطقاطيقه المذهلة وألحانه البديعة، التى ما تكاد تتردد على خشبة المسرح، حتى يحفظها جمهور المتفرجين عن ظهر قلب.
وكانت طقاطيق الشيخ سيد، المؤلفة بلهجات أبناء الإسكندرية، والنوبيين، والصعايدة، وكل فئات وطوائف الشعب المصرى ناهيك عن كلمات المتمصرين أيضا، تعبر بوضوح عن الرغبة العارمة فى توحيد أبناء الوطن الواحد، باحترام تعدديتهم وتنوعهم واختلافهم ولهجاتهم وطرائق تعبيرهم، تحت مظلة الوطن الواحد الكبير المتسامح المنفتح.
وتشهد تلك الفترة من روائع سيد درويش وإبداعات ألحانه: «قال يا سعد مين غيرك» و«يا مصر دى أيام أنسك» (بصوت عبداللطيف البنا)، و«مصر أولادها رجال»، و«نار الوطنية فى القلب» (بصوت زكى مراد). وهى الفترة ذاتها التى سيلحن فيها الشيخ زكريا أحمد نشيد «سعد زغلول» على مسرح الماجستيك، وكان المطربون والجمهور يرددونه وقوفا، ويقدم المطرب الشعبى محمد العربى مواويله فى حب مصر بأحد مقاهى شارع عماد الدين، وينظم محمود مراد نشيد: «اسلمى يا مصر...»، ليردده الجميع.

(4 ) كانت تلك الفترة فترة اختمار وطنى وفنى وإبداعى لا مثيل لها، وكانت مسارح روض الفرج ترفع ستارها عن فتيات يتوشحن بعلم مصر، وهن ينشدن الأناشيد الوطنية، ولعب الثالوث (نجيب الريحانى، بديع خيرى، سيد درويش) دورا مهما خلال الثورة، مع استخدام المسرح فى نشر الأفكار والألحان الغنائية الجمعية، الوطنية والثورية، التى كانت تزداد انتشارا.
واعتادت جماهير القاهرة أيامها أن ترى بديع خيرى والشيخ سيد يستقلان العربة الحنطور، يطوفان بها شوارع وأحياء المدينة، وهما يرددان: «بلادى.. بلادى..» الذى أصبح النشيد القومى المصرى، وغيره من الأناشيد التى تدعو إلى الوحدة الوطنية: «قوم يا مصرى..»، «أنا المصرى...»، و«اليوم يومك يا جنود..».. إلخ.

(5 ) فى إطار هذه الحالة من الانصهار الوطنى والتدفق الإبداعى والانهمار الفنى كتب الرائد القصصى والمسرحى محمد تيمور (1892ــ1921) الذى مات شابا بدوره لم يكمل الثلاثين من عمره، أول أوبريت مصرى (أو بالدقة ممصر) بعنوان: «العشرة الطيبة»، وهو الأوبريت الذى لحنه سيد درويش، وبرزت فيه مواهبه وقدراته التلحينية والتحديثية الموسيقية بصورة مذهلة، وقد وضع أزجال الأوبريت بديع خيرى، ومثلت بإشراف عزيز عيد مارس 1920.... (وللحديث بقية).