سعد الدين إبراهيم.. وأزمة المثقف العربي - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سعد الدين إبراهيم.. وأزمة المثقف العربي

نشر فى : الأحد 8 أكتوبر 2023 - 9:55 م | آخر تحديث : الأحد 8 أكتوبر 2023 - 9:55 م
شاركت فى تقديم العزاء لأسرة المرحوم الدكتور سعد الدين إبراهيم مساء الأربعاء الماضى، وشاهدت فى سرادق العزاء بجامع عمر مكرم الشهير فى ميدان التحرير كثيرين ممن عرفوا سعد عن قرب وبعض من تتلمذوا على يديه فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وأزعم أنهم وإن أجمعوا على مكانته العلمية، إلا أنى أشك كثيرا أنهم وافقوا على كل المواقف السياسية التى اتخذها طوال حياته الفاعلة كمثقف عام فى الوطن العربى، وبعض هذه المواقف جلبت عليه استنكارا واسعا حتى بين أساتذة الجامعة الأمريكية بالقاهرة التى واصل التدريس فيها بلا انقطاع منذ عودته من دراسته للدكتوراه فى الولايات المتحدة حتى رأى أنه من المناسب له أن يتقاعد منها بعد زيارته فى ٢٠١٨ لمركز موشى ديان فى جامعة تل أبيب وإلقائه محاضرة فيه قاطعه فى بدايتها عشرات من الطلاب الفلسطينيين احتجاجا على قبوله الدعوة للحديث فى تلك الجامعة.
هذا الحدث البارز فى مسيرة الدكتور سعد جعلنى أتذكر مواقفه فى سبعينيات القرن الماضى وبحسب ما ذكره عن تعاطفه مع المقاومة المسلحة الفلسطينية. ولم يكن هناك ما يدعونى للتشكك فى هذه القصة، فقد رواها لى ونحن فى بيروت فى سبتمبر ١٩٨٠، وكانت بيروت ما تزال مقسمة بفعل الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥ــ١٩٨٩)، وكنا نسير على ساحلها الذى شغلته عشوائيات فقراء اللبنانيين الذين أجبرتهم الحرب والتقسيم الطائفى للبلاد على الهرب من مساكنهم ولم يجدوا غير شاطئ بيروت الساحر ليقيموا فيه حتى تنتهى الحرب. وكنت قد ذهبت إلى بيروت بعد انتهاء دراستى للدكتوراه فى جامعة جنيف لمفاتحة مركز دراسات الوحدة العربية فى مشروع بحثى، وكان هو فى ذلك المركز ليعد لمشروعه الطموح حول استطلاع موقف الرأى العام العربى من قضية الوحدة العربية، وكما هو معروف فهذا المركز أسسه المفكر البارز والوزير العراقى السابق وأبرز دعاة القومية العربية المرحوم خير الدين حسيب. كيف انتقل سعد الدين إبراهيم من متعاطف مع المقاومة الفلسطينية المسلحة ومثقف طليعى فى الحركة القومية العربية إلى واحد من أبرز الداعين للتطبيع مع إسرائيل فعلا وقولا؟ وهل كانت ظاهرة سعد الدين إبراهيم هذه ظاهرة فردية أم أنها الحالة الأشهر فى تيار مهم من المثقفين العرب؟ وهل تعكس هذه التحولات اجتهادات فردية أم أنها مجرد صدى لتحولات السياق العربى العام المحيط بهم؟
مثقف إصلاحى:
الإجابة عن هذا السؤال أجدها فى مسيرة سعد السياسية ومواقفه النظرية، فهو فى مسيرته السياسية ومع تعاطفه فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى مع المقاومة الفلسطينية المسلحة، لم يكن يعتبر نفسه مثقفا ثوريا. صحيح أنه كان من بين المؤسسين بل ورئيس رابطة الطلاب العرب فى الجامعات الأمريكية وفى منظمة الطلاب العرب فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذه المنظمة والتى كانت تجمع الطلاب العرب فى أمريكا الشمالية على اختلاف توجهاتهم كان يغلب على توجهاتها القوميون والبعثيون، ولم يعرف عنها أنها وهى فى الولايات المتحدة تدعو إلى قلب النظم العربية بالقوة، بل إن سعد قد عوقب على موقف لا يمكن أن يوصف بالثورية عندما أسقطت عنه حكومة جمال عبدالناصر الجنسية المصرية لأنه فيما يبدو استضاف الأمير فيصل ولى عهد المملكة العربية السعودية فى ذلك الوقت (١٩٦٥) فى أحد أنشطة هذه المنظمة، وهو ما دعاه بعد ذلك إلى السعى للحصول على الجنسية الأمريكية. ولم يظهر الدكتور سعد بعد عودته إلى مصر أى ميول ثورية، فقد عمل إلى جانب التدريس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة الأهرام، وهو مركز تأسس ليقدم المشورة للحكومة المصرية من خلال دراساته بداية حول إسرائيل ثم حول قضايا أخرى بعد ذلك، وكانت به وحدة للشئون العسكرية وعلى اتصال معها. ولا يعنى ذلك أنه لم يكن عليما أو ناقدا للطابع الاستبدادى للنظم العربية، فقد أصبح فيما بعد من بين مؤسسى المنظمتين العربية والمصرية لحقوق الإنسان بعد مشاركته الفاعلة فى مؤتمر أزمة الديمقراطية فى الوطن العربى الذى نظمه مركز دراسات الوحدة العربية فى لارناكا بقبرص فى سنة ١٩٨٣ بعد أن استحال عقده فى أى عاصمة عربية، كما أصبح من دعاة صحوة المجتمع المدنى فى الدول العربية، فقد استند موقفه الإصلاحى إلى قناعته بأن التطور الديمقراطى السلمى هو أمر ليس ممكنا فقط فى هذه الدول بل هو أمر محتمل. وأذكر أنه عبر عن هذه القناعة علنا فى سجال معى شهدته قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية فى سنة ١٩٩٩، كنا قد اشتركنا فى حوار دعت له الجامعة الأمريكية فى سلسلة الحوارات التى كانت تديرها بصفة منتظمة فى تلك القاعة وتحضرها نخبة متميزة من المثقفين والدبلوماسيين المصريين والعرب والأجانب. وكان موضوع هذا الحوار هو مستقبل الأوضاع العربية، وذكرت أن الانتقال إلى الديمقراطية فى البلاد العربية أمر مستبعد فى ذلك الوقت وأن النظم العربية لن تسمح بانتقال سلمى، وكان رأيه أن هذا التطور الإيجابى أمر شديد الاحتمال. وفسر الخلاف بيننا على أنه اختلاف متوقع بين علماء الاجتماع وعلماء السياسة، فعلماء الاجتماع فى رأيه مهتمون باتجاهات التطور الاجتماعى على المدى المتوسط والبعيد بينما ينشغل علماء السياسة بالأحداث اليومية، ولذلك فرؤيتى محكومة فى رأيه بأحداث الساعة، بينما رؤيته هو أكثر امتدادا زمنيا ومكانيا. لم تتح لى الفرصة فى هذا النقاش أن أعترض على هذه الحجة، ولكنه تأكد من صحة تحليلى عندما وجد نفسه متهما ثم محكوما عليه بالسجن قضى فيه ثلاث سنوات بسبب ما تصور المحيطون بالرئيس الأسبق حسنى مبارك أنه تشويه لصورة هذا الحكم فى كتاباته. ورغم هذه التجربة المريرة التى انتهت ببراءة سعد من كل التهم التى وجهت له فى حكم شهير من محكمة النقض المصرية فإنه لم يتخل عن موقفه الإصلاحى إزاء النظم العربية. والقارئ لمقاله الأسبوعى فى صحيفة المصرى اليوم والذى واظب عليه حتى أسابيعه الأخيرة يكشف إلى أى حد احتفظ بهذا الموقف الإصلاحى إزاء نظام الرئيس عبدالفتاح السيسى، فقد كان مجاملا للرئيس ومشيدا بمشروعاته القومية.
تجسير الفجوة
يتأكد هذا الموقف الإصلاحى بالتأصيل النظرى له فى السجال الشهير بينه والزميل العزيز الأستاذ دكتور نادر فرجانى عندما اختلفا حول موقف المثقف العربى من أنظمة الحكم فى بلاده، وكان رأى نادر هو أن المثقف يجب أن يقف مع الجماهير فى مواجهة السلطات المستبدة، وكان موقف سعد هو ضرورة أن يسعى المثقف لـ«تجسير الفجوة» مع الأمير، ويقصد بذلك أن يصبح المثقف ناصحا ومستشارا للأمير. ولعل سعد كان يحلم بأن يقوم المثقف العربى بمثل ما كان يقوم به فى سبعينيات القرن الماضى أستاذ جامعة هارفارد الأشهر هنرى كيسنجر الذى كان مستشار الأمن القومى للرئيس ريتشارد نيكسون ثم وزيرا للخارجية بعد ذلك، وساهم فى تشكيل سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين وفيتنام ودول أمريكا اللاتينية. ولم يكن موقف سعد فى هذا السجال مع نادر فرجانى مجرد أفكار تدور فى ذهنه، ولكن ذلك هو ما سعى بالفعل لعمله سواء فى مصر بكتابة تقارير لرئيس الدولة فى مصر سواء كان السادات أو مبارك، أو بتقديم النصح لهما من خلال علاقاته الوثيقة بأفراد عائلتهما وخصوصا قرينة كل منهما، وهو ما واصله فى الأردن عندما كان أمينا عاما لمنتدى الفكر العربى الذى رأسه الأمير حسن ابن طلال والذى ظل وليا للعهد حتى غير الملك حسين ترتيب وراثة العرش قبل وفاته مباشرة، ومكنته صلاته بعدد من الأسر الحاكمة فى الوطن العربى خصوصا فى قطر والكويت وبعض رؤساء الدول فيه من أن يوسع أداءه لهذا الدور بطريقة غير رسمية. موقف تجسير الفجوة هذا يستحق الوقوف عنده لتأمل أبعاده ومداه.
تجسير الفجوة: الأبعاد والمدى:
لا أعتقد أن هناك من يعترض على وجود علاقة صحية بين المثقف والأمير فى كل الدول وخصوصا فى دول الجنوب التى تواجه تحديات ضخمة على طريق النهوض بأوضاع مواطنيها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا. فالحكم الرشيد يقوم على توافر معلومات صحيحة وتحليل أمين لما يتوافر من معلومات. يفترض أن تتولى أجهزة الدولة فى شتى المجالات أداء هذا الدور، وألا يقتصر ما يتلقاه صناع القرار على تقارير مؤسسات الأمن. من المحتمل أن تستخدم كل هذه الأجهزة صلاتها برئيس الدولة أو الحكومة لتبييض وجهها وإخفاء جوانب قصورها والمبالغة فى التدليل على نجاحها. لذلك وجود قنوات مستقلة تقدم المشورة لصناع القرار هو أمر يضمن تنوعا فيما يصل إليهم من رؤى وتحليلات، ولكن المسئولية عن صنع القرار تقع فى النهاية على عاتقهم. صحيح أن مفهوم المثقف اقترن خصوصا فى الثقافة الفرنسية بالموقف الناقد بل والرافض للسلطة القائمة، ولكن مفهوم المثقف فى القرن العشرين قد اتسع ليشمل أنماطا متعددة من المثقفين، ومنهم المثقف الخبير أو التكنوقراطى الذى يملك المعرفة فى مجال تخصصه القريب مما تقوم به الحكومات، ومن ثم فإن تجسير الفجوة بين المثقف الخبير والسلطة الحاكمة هو أمر ضرورى ولا غنى عنه، ولكن بشرط أن يحتفظ هذا المثقف باستقلاله، وأن يكون صانع القرار واسع الصدر ومرحبا بما يأتيه من جانب هذا المثقف حتى ولو كان يتضمن انتقادا لما تقوم به الحكومة أو رؤية مخالفة لما تنفذه من سياسات. ما الذى يضمن ألا يصدر هذا المثقف عن مطامح فردية، ورغبة فى تحقيق مصالح خاصة يسعى لبلوغها من خلال التقرب للحاكم على هذا النحو وادعاء أنه يسعى للمصلحة العامة وخدمة نظام الحكم؟ ألن يكون من الأفضل أن تأتى مشورة المثقف الخبير من خلال مؤسسة، وأن تكون تعبيرا عن رؤية جماعية مستنيرة لما يحقق المصلحة العامة فى أى مجال محدد؟.
لا يعرف أحد مضمون النصائح التى كان يقدمها سعد الدين إبراهيم لبعض الحكام العرب، ولاشك أن الكثير منها كان يقدمه بصفته الفردية، وليس باعتباره رئيسا لمؤسسة أو مشاركا فى عمل جماعى، ولكن المؤكد فى حالة مصر تحديدا أنه لم يستفد شخصيا مما كان يقدمه من مشورة فى صورة تقارير، وأنه عندما قدمها فى صورة دراسات لم يتلق مكافأة بل عوقب على ذلك بتقديمه للمحاكمة متهما بأن ما كان يقوم به ويشرف عليه من دراسات قد ساهم فى تشويه صورة الدولة فى الداخل والخارج، وهو ما يؤكد أن الشرط الثانى للنجاح فى تجسير الفجوة لم يكن متوافرا، وهو اتساع صدر صناع القرار للسماع لوجهات النظر المتجردة من جانب الخبراء من خارج أجهزة الدولة.
تجسير الفجوة من وجهة نظر سعد لم يكن قاصرا على المستوى المحلى بل امتد إلى المستوى الإقليمى بل والدولى. هو سعى لتجسير الفجوة بين العرب والإسرائيليين. إحدى صور تجسير الفجوة على المستوى الإقليمى كان فى إشرافه على مجموعة أسمت نفسها بالأرضية المشتركة Common Grounds، وأصدرت لسنوات فى تسعينيات القرن الماضى نشرة دورية تحمل نفس الاسم، وضمت المجموعة عربا وإسرائيليين وأمريكيين، وكان هدفها تقريب وجهات النظر بينهم جميعا بما يخدم قضية السلام فى الشرق الأوسط. كما كانت زياراته المتكررة لإسرائيل، وآخرها حسب ما نعرفه هو تلك المحاضرة فى مركز موشى ديان فى جامعة تل أبيب فى ٢٠١٨، وعلى المستوى الدولى كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تثق به وبتحليلاته، إلى الحد الذى دعا إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق للاستماع إليه لمعرفة رأيه فيما كان يجرى فى مصر فى يناير وفبراير ٢٠١١، وحضر الرئيس أوباما شخصيا جانبا من هذا الاجتماع.
بعض محاولات تجسير الفجوة على المستويين الإقليمى والدولى سببت حرجا لرفاقه فى العمل الحقوقى بل وزملائه فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة الذين لم يترددوا فى رفضها وإدانتها، ولكن بعضها ربما كان مطلوبا وبناء. أذكر أنه أثناء عشاء حضرته فى حديقة منزله السابق فى المعادى شاهدت سفيرا أمريكيا سابقا ينتحى بممثل منظمة التحرير الفلسطينية بالقاهرة، ويذهبان بعيدا عن المدعوين لتبادل حديث لم أسمعه بكل تأكيد، وكان ذلك قبل قيام علاقات رسمية بين الإدارة الأمريكية والمنظمة الفلسطينية قبل اتفاقيات أوسلو ١٩٩٣.
أزمة المثقف العربى:
حكاية سعد الدين إبراهيم حافلة بالدروس. تجسير الفجوة بين المثقف والأمير لم يحن وقته بعد فى الوطن العربى. الأمير لا يريد المثقف ناصحا ولكنه يريده داعية. وتجسير الفجوة عندما يتجاهل مشاعر المواطنين والاتجاهات الغالبة للرأى العام يوسع الفجوة مع من يراهم الرأى العام محتلين وغاصبين. ولكن سعد فى سعيه لتجسير الفجوة إقليميا ودوليا لم يخرج عن توجهات النظام الحاكم فى مصر ولا توجهات دول مؤثرة فى وطننا العربى، ومع ذلك لقى هذا الموقف المعادى بين قطاع واسع من النخبة وبين المواطنين. وانتهى الأمر به مغلبا حسابات خاصة فوق أى اعتبارات.
يبقى من سعد الدين إبراهيم دراساته الرائدة عن الحركة الإسلامية فى مصر، وعن النحل والملل والأعراق، والنظام الإقليمى العربى ومواقف الرأى العام العربى من قضية الوحدة، وصور المستقبل العربى. وليته اقتصر على دوره كأستاذ واسع المعرفة ورائد بحق فى دراسات المجتمع العربى.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات