كائن لا تُحتَملُ خفته - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 7:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كائن لا تُحتَملُ خفته

نشر فى : السبت 8 أبريل 2023 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 8 أبريل 2023 - 8:10 م
كانت تتمايل يمينا ويسارا على نغمات المنشد الصوفى وهو يردد كلمات ابن الفارض، أمام أحد منازل القاهرة التاريخية. ملابسها تقليدية، لكنها انطلقت وتحررت من كل ما تمليه عليها طبقتها. تتحرك بخفة لا تتناسب مع سنوات عمرها التى تظهر بوضوح على وجهها. عيناها غاطستان فى تجاعيد بشرتها القاتمة والمخططة بألف تجعيدة. عجوز معتادة على الكلام القليل والمعنى الكبير. تقول فى سرها: مساكين أولئك الذين يعيشون وهم يحسبون. هى تخففت من كل الحسابات، وصار الناس يستقبلونها كنسمة من نسمات الصيف. لا تعرف كم من الأيام مرت بها وكم من الوجوه صافحتها. بها لطف ورقة فى كل شىء، فهى خفيفة الدم والروح والظل. اتخذت قرارا قبل أعوام بالتخلص من كل ما قد ينغص عيشتها أو يجبرها على فعل ما تكره. أخيرا، أصبح لديها متسع من الوقت لنفسها وما تحب، خاصة بعدما كبر أولادها واستقلوا بحياتهم.
مع التقدم فى السن فهمت أنه يجب التركيز على الأشياء الأساسية وترك التفاصيل والناس الذين من شأنهم تقويض حركتها أو تشويش مجال طاقتها. تبع كل ما شعرت به من أحزان وخسارات وشجون لحظات من الراحة، فما ضاقت إلا لتفرج وما تعسرت إلا تيسرت. بعد وفاة زوجها أقامت مع صديقة قديمة تنتمى لإحدى الطرق الصوفية، تبعتها فى مجالس الذكر والصفا. انتهت فترة الحداد بسلام وقد كانت تحسبها لن تمر لثقلها، لكن تجاوزت الأزمة. بمزيد من الثقة بالنفس، لم تعد تقاوم طبيعتها أو تقاوح، بل تقبلت ما هى عليه. لا حاجة للمعاندة والمكابرة، لا وقت لتضيعه فيهما. تعلمت العيش بشكل مكثف، فالحياة قصيرة لم يتبق منها الكثير، وبالتالى يجب عدم إهدار الأيام.
• • •
صارت تفعل كل ما تفعل بمنتهى الجدية، لكن بدرجة أكبر من الخفة. لا تزال الإنسانة المتطلبة ذاتها، لكن من دون قلق أو توتر. كائن خفيف يطفو على سطح لوحة، أو تصفه طقطوقة «خفيف.. خفيف» لصالح عبدالحى، رغم أن معظم كلمات الأغنية لا تنطبق عليها ولا تمثلها، فقط يَلزمُها العنوان. تذكرت أيضا رواية «كائن لا تُحتَملُ خفته» للكاتب التشيكى ميلان كونديرا التى قرأتها من فترة، عند صدورها فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى. لم تتوقع حينها أنها ستتحول إلى مثل هذا الكائن وتجيب عن السؤال الذى طرحه المؤلف: ما الذى يجب أن نختاره الخفة أم ثقل الوجود والعيش مكبلين بأصفاد الماضى؟ استرجعت سريعا أحداث الرواية بشخصياتها الأربعة التى تشابكت مصائرها خلال مرحلة من تاريخ الجمهورية الاشتراكية التشيكوسلوفاكية عُرفت بـ«ربيع براج»، استمرت من يناير إلى أغسطس 1968، وانتهت باجتياح عسكرى للبلاد من طرف قوات حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتى، وباء بالفشل النهج الإصلاحى الذى أراده الحزب الشيوعى التشيكوسلوفاكى. مزيج السرد الكلاسيكى والتحليلات الفلسفية فى الرواية يسمح لكلٍ منا بالتفكير فى حياته، هل نريد أن نستمر فى حمل الماضى بثقله على أكتافنا مثلما فعلت تيريزا، إحدى بطلات الكتاب، التى ظلت تحمل معها هموم ما مرت به فى تشيكوسلوفاكيا حتى بعد الهرب واللجوء؟
• • •
الحمد لله هى لم تتعرض لهاتين التجربتين، لكنها اختبرت ما اختبرت من أوجاع، وتعلمت كيف تتخلص منها تباعا. تجاهد نفسها حينا، وتطلق العنان حينا. تعلو مع ارتفاع نغمات موسيقى «السماع»، تدور حول نفسها وتتأمل فتصل لدرجة أعلى من رهافة الحواس ورقة القلب. تتخفف من الأعباء وتقعد بعدها لتستريح. لا تمل وهى جالسة على كرسيها من متابعة الأفراد نفسهم يمرون أمامها، فهى لا تتعب من مراقبة الحياة من حولها ومد يد العون إن استطاعت لكى يكون مرورها خفيفا. الحياة صارت بالنسبة لها ناسا من مختلف الأعمار والأشكال يمرون على سجادة حمراء طويلة، وهى تتبادل معهم الابتسامات بعد أن علمتها الأيام تجاوز الوهم والألم.
التعليقات