ما قد يحدث غدًا فى أمريكا - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما قد يحدث غدًا فى أمريكا

نشر فى : الأحد 7 يونيو 2020 - 10:50 م | آخر تحديث : الأحد 7 يونيو 2020 - 10:50 م

لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية هى نفس الدولة، التى خرجت من بين أطلال الحرب العالمية الثانية، قبل (75) عامًا، كقوة عظمى قدراتها الاقتصادية تضارع قوتها العسكرية ونفوذها بقدر أدوارها.
تكاد تتقوض الآن روافع الدور الأمريكى فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين تنازعت على زعامة النظام الدولى مع الاتحاد السوفيتى السابق، قبل أن تنفرد به بصورة شبه مطلقة، بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، مطلع تسعينيات القرن الماضى.
بأثر ضربتين متزامنتين من وباء «كورونا المستجد»، ووباء «العنصرية المتجذرة»، انكشفت الشقوق والشروخ فى الروافع، التى حملت الدور الأمريكى إلى منصة القيادة الدولية لعقود طويلة متتالية.
عند نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتسبت الولايات المتحدة صفة «قائد النصر»، و«المنقذ»، الذى جاء من خلف المحيط لانتشال أوروبا والعالم معها من براثن النازية المتفشية.
كان ذلك تلخيصا مخلا لحقائق الحرب، فقد تأخرت الولايات المتحدة لأكثر من عامين عن خوضها، وبذلت دول أوروبية عديدة تضحيات هائلة فى المقاومة والصمود، وتمكنت القوات السوفيتية من حسم معارك أوروبا الشرقية كلها ودخول برلين قبل أى قوة عسكرية أخرى، لكنها قوة الصورة والدعاية مستندة على روافع ناعمة وصلبة.
كانت أول رافعة قدر ما ضخ من أموال هائلة لإنعاش الاقتصادات الأوروبية المنهكة بأثر ما لحق بها من تدمير، بلغت ذروتها فيما عرف باسم «مشروع مارشال»، الذى أعاد بناء ألمانيا المهدمة لإعادة تأهيلها وفق المنظومة الغربية الجديدة بعد الحرب.
فى أزمة «كورونا»، تخلفت الإدارة الأمريكية الحالية عن مد يد العون طبيا وماليا للدول الأوروبية الأكثر تضررا مثل إيطاليا وإسبانيا، ولا ساعدت أية دولة حليفة خارج أوروبا.
كانت تلك علامة على تقوض واحدة من أهم روافع المكانة الأمريكية بين حلفائها المفترضين.
بالمثل كان التحلل من اتفاقات تجارية واقتصادية واستراتيجية دون تشاور يعتد به، أو وضع مصالح الحلفاء فى ميزان التصرفات سحبا من رصيد الثقة وحسابات الصورة.
وكانت ثانى رافعة للدور الأمريكى بناء قاعدة صلبة مستدامة للتحالف العسكرى بين الحلفاء أخذ صيغة حلف «الناتو» فى مواجهة حلف آخر نشأ بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق انتسب إلى العاصمة البولندية «وارسو».
رغم انهيار حلف «وارسو»، بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى أعاد حلف «الناتو» هيكلة أهدافه متسقا مع ما تريده الإدارات الأمريكية المتعاقبة، شاركها حروبها واتبع خطاها كظلها، وقد جرت أغلب التدخلات العسكرية فى الشرق الأوسط كغزوى العراق وليبيا.
بطبائع الدور تكفلت الولايات المتحدة بالقسط الأكبر من تمويل «الناتو»، وذلك من متطلبات إخضاع الحلف لمقتضى الاستراتيجيات الأمريكية وحروبها، فلا شيء مجانيا.
محاولة «ترامب» التملص من تكاليف الحلف المالية ضربت فى فلسفته، وإمكانية بقائه وأهلية الولايات المتحدة لقيادته.
وكانت ثالث رافعة حجم ما ضخته الولايات المتحدة من أموال فى شرايين المنظمات الدولية بالقياس على أية دولة أخرى، وقد أضفى عليها هذا الدور نفوذا استثنائيا لم تحصل عليه أية دولة منافسة.
اكتسب الخروج الأمريكى من منظمة الصحة العالمية صدمته من توقيته فى لحظة جائحة تصيب وتميت ملايين البشر، بغض النظر عما هو منسوب للمنظمة الدولية من أخطاء وارتباكات.
لم يحدث أى قدر من التشاور والتنسيق مع الحلفاء المفترضين، الذين اعترضوا على القرار وتوقيته.
بنفس النهج خرجت الولايات المتحدة من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»، بذريعة أنها تنحاز ضد إسرائيل، وأوقفت تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين «الأونروا» للضغط على العصب الاقتصادى الفلسطينى، لتقبل «صفقة القرن»، التى تنهى عمليا القضية الفلسطينية إلى الأبد.
وكانت رابع رافعة للدور الأمريكى الصورة التى بنيت كأحلام ملونة للإمبراطورية الصاعدة، صاغتها «هوليوود» وصحافتها ومراكز الأبحاث والتفكير والجامعات المتقدمة، والسبق الذى تحوزه فى التقنيات الحديثة.
عبر العقود انكسرت الصورة الأمريكية، خاصة هنا فى العالم العربى، حتى بدت مؤخرا موضوعا لسجال عالمى بدواعى انكشافها تحت ضربات الوباء والعنصرية.
كانت المفارقة الكبرى أن الدولة التى يفترض أنها الأقوى والأكثر تقدما علميا وطبيا بدت مرتبكة فى مواجهة الوباء باستراتيجية قادرة على تطويقه، تصدرت المركز الأول عالميا فى نسب الإصابات والوفيات، وكان الحصاد الأكبر للأمريكيين الأفارقة الأكثر فقرا وتهميشا وحرمانا.
لخصت الاحتجاجات الصاخبة على مقتل «جورج فلويد»، حجم التدهور الفادح فى الصورة الأمريكية، مجتمع ممزق ومنقسم تتغلغل العنصرية فى مؤسساته، خاصة الأمنية والعدالة تجرى حسب العرق، حسبما قيل فى تأبين الضحية السوداء.
أمام الأزمتين الكاشفتين يطرح السؤال نفسه: ماذا قد يحدث غدا فى أمريكا؟
أول اختبار حقيقى، مدى قدرة النظام السياسى فى تجنب الانزلاق إلى فوضى ضاربة، أو حرب أهلية ثانية، تفضى إلى تفكيك الدولة.
بالوقت قد تخفت الاحتجاجات، لكن يظل الجرح ماثلا ومرشحا لانفجارات أكبر فى المستقبل إذا لم تدخل إصلاحات جذرية على مؤسستى العدالة والأمن.
وثانى اختبار حقيقى، مدى قدرة النموذج الأمريكى على ترميم صورته فى عين شعبه أولا وفى مرآة العالم ثانيا، وهذه مسألة صعبة للغاية تستدعى إجراءات قانونية وعملية تنفذ إلى صلب المشكلة فى اجتثاث العنصرية من عند الجذور.
وثالث اختبار حقيقى، مدى قدرة المؤسسة الأمريكية على تقبل فكرة الإصلاح الاجتماعى من داخلها.
أخطر ما قاله «جون بايدن» المرشح الديمقراطى للانتخابات الرئاسية المقبلة فى خطابه بذروة الاحتجاجات الشعبية على مقتل «جورج فلويد»: «إن التاريخ الأمريكى لم تصنعه وول استريت ولا البنوك».
بتكوين «بايدن» الفكرى والسياسى فهو ديمقراطى محافظ، وبمنطوق ما قاله فهو نوع من الاستجابة لتوجه غالب فى حركات الاحتجاج، وجماعات اليسار داخل الحزب الذى يتقدم باسمه للانتخابات الرئاسية.
المعنى أن الصراع الاجتماعى مرشح للتفاقم داخل الولايات المتحدة، وأن تطورا فكريا قد يلحق ببعض جوانب السلطة العليا فيها.
ورابع اختبار حقيقى، مدى استعداد أية إدارة أمريكية مقبلة على تقبل أنه لم يعد بوسع بلادها أن تقود العالم منفردة.
وهذه مسألة سوف تحكمها حقائق القوة وموازينها المتغيرة قبل أى شيء آخر.
وخامس اختبار حقيقى، مدى التغيير الذى قد يلحق بالسياسات الأمريكية فى قضايا الشرق الأوسط، حيث تضرب العنصرية الصهيونية شعبا أعزل، وتعمل على اقتلاعه من أرضه وضم ما تبقى منها، حتى يكاد الفلسطينيون أن يصرخوا، كما الأمريكى الأسود القتيل: «نحن أيضا نريد أن نتنفس».