بَــلَع - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 6:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بَــلَع

نشر فى : الجمعة 7 أبريل 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : الجمعة 7 أبريل 2023 - 7:20 م

كانت جدتي تقولُ إذا اقتضت الحكايةُ التعليقَ اللاذعَ وشاءت الظروف: "بَلَّعوا الضيفَ ريقَه"، تنطق الفعلَ بتشديد اللام، والقصد أنَّ ثمَّة مَن حلَّ على بيت مِن البيوت فمكثَ قدر ما شاءَ، لكنَّ أصحابَ المكان لم يُقدموا له واجبَ الضيافة، وما أتوه بما يُؤكَل أو يُشرَب. قد يُوصف هؤلاء بالبُخلِ والتقتير أو بالافتقار إلى اللياقةِ وانعدام الذَّوق، والنتيجةُ واحدةٌ في الحالين؛ شعور الزائر بأن زيارتَه غيرَ مَرغوبٍ فيها، وبأنها خطأ كان الأولى تجنُّبه.
• • •
يأتي الفعلُ بَلَعَ في قواميسِ اللُّغة العربية ليفيد دَفْعَ الطعام إلى البلعوم، وفي مُعجم المعاني أن البَلْعَ عمليةٌ تتمُّ دون المرور بمرحلةِ المَضغ؛ أيّ يتحرك الأكلُ من الفمّ إلى المَعدة مُباشرة؛ لا يلوكه اللسانُ ولا تطحنُه الضُّروس. الفاعلُ بالعٌ والمفعول به مَبلوع، والمصدر هو البَلْع بفتح الباء وتسكين اللام، والفِعلُ يحتملُ التَّوظيفَ كمَجاز.
• • •
إذا قيلَ إن فلانًا قد ابتلَعَ الإهانة؛ فالقصد أنه تركَها تمُرُّ دون صدّ أو رد. تلقاها وأدركَها ثم تجاوزَ عنها؛ اعترافًا باستحقاقِه لها أو عجزًا عن مواجهتِها أو رغبةً في تجنُّب معركةٍ مُتوقَّعة. كثيرةٌ هي الإهانات التي وُجّهت في زمنِنا هذا إلى أصحابِ جاهٍ ومَنصبٍ ومَال؛ لم يقف أحدهم تقريبًا ليُدافع عن كرامتِه، والسَّببُ في العادة خوفٌ من عاقبةٍ لا يُعرف مداها.
• • •
ربما بَلَعَ المرءُ لسانَه، والقَصد أنه خَرسَ وكفَّ عن الكلامِ إذ فجأة؛ ربما لصدمَةٍ غير سارة أو تداركًا لخطأ كاد أن يقعَ فيه. في بعضِ المرَّات قد يَخرج الأمرُ عن إطارِ التخييل ليتحوَّل إلى حقيقةٍ مَلموسة، ولتصبح العاقبةُ جدٌّ وَخيمة؛ فأكم مِن لاعبِ كُرةٍ صَدَم رأسَه بعنف، وسدَّ لسانُه مَجرى الهواء، فقضى نحبَه في لحظاتٍ ولحقَه الصَّمتُ الأبديّ.
• • •
إذا تضخَّمت تجارةٌ بصورةٍ لافتةٍ للنظر؛ قيل إن صاحبَها قد بَلَعَ السُّوق، والمراد أنه لم يترك فَسَحَةً لمَن هم أصغر منه حجمًا وأقلّ قدرة، فإن كَبُر وتعاظم وقَضى على مُنافسيه تمامًا حتى لم يعد لمَن حوله وجود؛ يكون قد احتكر مَجاله. ربما تمثلُ الصناعةُ مِضمارَ التنافُس وقد يكون إنتاج الغذاء، والحقُّ أن احتكارَ هذا أو ذاك يُهدر فُرصَ التَجويد ويُرغِم الناسَ على استهلاكِ الموجود. ثمَّة مُحتكرون يلقون جزاءَهم العادل، وآخرون يتمتعون بسُلطةٍ تقيهم شرَّ القوانين وتعصِمهم مِن العقوبات.
• • •
أعرفُ مَن إذا جَلسَ إلى مائدةِ الطعامِ، أنهى صحنَه خلال ثوانٍ مَعدودات قبل أن يلمسَ مرافقوه الملاعقَ والأشواك، يبتلع ما دخلَ فاهه في التو؛ كأنه قد ألقى به إلى مُنزَلَق عميق. أعرفُ أيضًا مَن يُمكنهم تناول قُرص دواءٍ ضخمٍ دون قطرةِ مياه تُسهل مروره، وعلى الجانبِ المقابل؛ مَن يتعثرون في بَلْع حبَّةٍ صغيرةٍ مَصحوبة بفَيضٍ مِن السوائل. هي عاداتٌ تختلفُ من شَخصٍ لآخر، لكن الثابتَ علميًا أن البَلْع مُؤذٍ للمَعدة؛ يُسبب العسرَ والشعورَ بالامتلاء، في حين يُساعد المَضغ الجيّد على تحسين الهَضم.
• • •
إذا اجتمع الناسُ في مَحفلٍ عام، فظهر بينهم من يملِكُ الذكاءَ الاجتماعيَّ المائز والمَهاراتِ الفائقةِ، وتبدَّت جاذبيته واضحةً فاستولى على الانتباهِ وتحلَّقَ حوله الحضور؛ قيل إنه بَلَعَ الجَو. الجَوّ هنا لا علاقة له بالطقسِ ودرجاتِ الحرارة؛ إنما بالمزاج العام الذي يَميلُ في العادةِ إلى شيءٍ من خفَّة الروح والصَخب وطلاقةِ اللسان، فيما ينصرفُ عن مَواطن الخواءِ والرَّتابةِ وغثاءِ الخطاب.
• • •
البلَّاعة صيغةُ مُبالغة، والمعنى أنها كثيرةُ البَلْع، فإن انسدَّت لما يخفى علينا دومًا من الأسباب؛ طَفَت المياهُ وأغرقت ما في مُحيطها، وما أكثرَ البلَّاعات التي لا تؤدي عملَها، وما أكثرَ الشوارع التي تغرقُ مع سقوطِ قطرات هي بمقاييس الأمطارِ من التفاهةِ بمكان.
• • •
ربما يمُر الواحد بلحظاتٍ كابيةٍ تعيسة، فما إن تلوح بوادر الانفراج حتى يتنفَّس الصعداء، ويُقال حينئذ في وَصفِ حاله: قد بَلعَ أخيرًا ريقَه، والقصد أنه تخطّى الأزمةَ، وأصبح قادرًا على استئنافِ حياته ومُزاولةِ ما توقَّف من نشاطاتِه المُعتادة.
• • •
في بعضِ الأحوالِ يُضطر المَرءُ إلى أن يؤديَ ما يكره، وأن يتحمَّلَ ما لا يُطيق، فإن فعلَ تحاكى الناسُ عنه وقالوا إنه قد بَلَع المُرَّ. إذا جاءت النتيجةُ مُرضِيةً سارة؛ تحوَّل العلقمُ إلى شَهد، وإذا لم تكن؛ تضاعف طعمُ المرارةِ في الفم.
• • •
يقول المأثورُ الشعبيُّ الشهير: "حبيبُك يَبلَع لكَ الزَّلط وعدوُّك يتمنى لكَ الغَلط"، والقَّصد أن المَحَبَّةَ تسوغ الخطأ وتغفره وتجعله يمُر بلا ضغائن، أما الكره والمُعاداة فيصوران التافِه العابرَ على أنه جسيمٌ هائلٌ؛ يستوجب من ردود الأفعال كلَّ جائرٍ عنيف.
• • •
إذا قيلَ بَلَعَ المرءُ الطُّعمَ؛ فالمعنى أنه وَقع في شرك ما، وما أكثرَ الشراك التي وقعنا فيها، وما أقسى الخُدع التي تعرَّضنا لها، والحقُّ أن العاملَ الإيجابيّ الوحيد هو ذاك الدَّرس المُستفاد؛ فما عادت في الأفقِ طعومٌ قد تجذبنا إليها، ولا شِباكٌ يُمكنها أن توقعَ بنا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات