غسيل الجيران يخفق لامباليا على الشرفات، بينما يقف هو وحيدا يفكر في أموره آخر الليل. كل شيء في حياته ممنوع: الدهون والسكريات، بأمر الطبيب، لا تراه إلا خارجا من مستشفى أو داخلا إلى صيدلية، الحركة صارت صعبة وكذلك القدرة على قيادة السيارة، فلديه التهاب في العيون وألم في المفاصل، حتى الغناء في الحمام الذي كان يُروح به عن نفسه قال له شيوخ الإنترنت إنه ممنوع لأنه يجلب الجن ويُعرضه للمس الشيطاني، وأوضحوا كذلك أن الكلام وقراءة الصحف في الحمام غير مستحبين. ما الذي تركوه له؟ في حين يرى جميع الناس من حوله يضربون بالقوانين عرض الحائط ويتفننون في مخالفتها والتحايل عليها.
فلت الزمام من يديه، وضاق به الكون الواسع. أصبح مثل الملابس التي توضع من موسم لآخر في الخزانة وفي طياتها حبات النفتالين حتى لا تهترىء ويأكلها العث. وأخذ يردد قصيدة "الممنوعات" لأحمد فؤاد نجم التي تَغنى بها الشيخ إمام وحفظها هو عن غيب: "ممنوع من السفر، ممنوع من الغنا، ممنوع من الكلام، ممنوع من الاشتياق، ممنوع من الاستياء، ممنوع من الابتسام، وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات، وكل يوم بحبك أكتر من اللي فات، حبيبتي يا سفينة متشوقة وسجينة...". كتب نجم هذه الكلمات عام 1979 في فترة هروبه من تنفيذ حكم قضائي بسجنه سنة مع الشغل والنفاذ بسبب إحدى قصائده، أما هو فقد هَده التعب من الأجواء العامة الضاغطة.
• • •
ارتمى على أول مقعد أمامه وشرد من النافذة يستعرض مجتمع "الممنوعات" الذي يعيش فيه. عيناه لا تخلو من الحسرة. يعلم أن المجتمعات تمر بدورات حياة تتأرجح بين موجات من المنع وأخرى يتم فيها التخلص من المحظورات. ضاقت من قبل ولما استحكمت حلقاتها فُرِجت، لكنه لم يعد يطيق الانتظار ويخاف أن يموت قبل أن تتغير الظروف، فهو حتى لا يدري متى ستنتهي الكورونا من العالم، وإذا سيشهد الخلاص من الوباء الذي انتهزته الحكومات لفرض المزيد من المحظورات والقيود على التنقل والتدخل في شؤون الأفراد، حتى في أوروبا والدول المتقدمة.
مُنعت احتفالات الموالد وآل البيت في الميادين والمناطق المجاورة لمنزله منذ حوالي ثلاث سنوات، ضمن إجراءات الحظر الصحي. وفي هذه الأثناء استعر الجدل حول أغاني المهرجانات، وأصدرت نقابة المهن الموسيقية قرارات بمنع من يؤدونها لحماية الذوق العام. واشتدت أزمة الدولار وشاعت أنباء حول منع استيراد بعض السلع، كذبتها الحكومة على الفور التزاما بقواعد التجارة الدولية.
• • •
يفكر مليا في العلاقة بين المنع والمخاوف الجماعية ونظريات المؤامرة من ناحية، والحريات من ناحية أخرى. يفهم أن الممنوع مرغوب، وأنه كلما ظهر أشخاص يحاولون التحكم في مصائر البشر تحت مسمى حمايتهم تؤدي الوصاية إلى مزيد من التمرد لدى البعض وتفضي أحيانا إلى رغبة حثيثة للمخالفة، فمثلا أفضل دعاية لكتاب هي القيام بمنعه، إذ لا يرضخ القارىء غالبا لقرار المنع ويحاول الحصول على العمل بطريقة أو بأخرى وينجح في مسعاه بفضل التقنيات الحديثة. المنع شائك ومعقد، ففي بعض المجتمعات التي يتوارى فيها المنع الرسمي والديني يلجأ أحيانا الأفراد إلى فرض قوانين من أسفل إلى أعلى، أي يُملون قواعدهم الخاصة التي تتحكم فيها المشاعر والأهواء بدلا من العقل فتظهر النزعات العنصرية وأعمال العنف، لكن هذا موضوع يطول شرحه، فلنظل هنا حيث كل شيء خاوٍ، بليد، متثائب.
الوصاية خلقت مجتمعا هشا، لا يستطيع استيعاب فكرة جديدة أو مختلفة، فقد غيبه المنع. صار يفتقد روح المبادرة والإبداع الحقيقي، لا مجال للتعبير عن ذاتية الفرد، لأن يُظهر هذا الأخير استقلاليته، وهو سأم هذا الوضع مع مرور الوقت والعُمر. يريد أن يعيش دون نفتالين، لذا حين ضبط نفسه متلبسا وهو يدندن نغمة بعينها في الحمام، لبى نداء الطبيعة، ورفع صوته بالغناء غير مُبالٍ بالإنس والجن.