ذاكرة نساء طبريا - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 11:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذاكرة نساء طبريا

نشر فى : السبت 6 يناير 2024 - 7:50 م | آخر تحديث : السبت 6 يناير 2024 - 10:48 م
كان هناك الحلم وأحلام أخرى صغيرة تحطمت على صخرة الواقع. طاردت الممثلة الفلسطينية هيام عباس، 63 سنة، حلمها كالفراشات. تركت قريتها «دير حنا» بمنطقة الجليل فى ثمانينيات القرن الفائت كى تنطلق نحو آفاق أرحب مكنتها من تحقيق شهرة فى الغرب. انتقلت فى البداية إلى إنجلترا بصحبة زوجها الأول، ثم أقامت فى فرنسا وعملت بشكل احترافى وتزوجت من والد ابنتها، الممثل الجزائرى الأصل زين الدين سوالم. نتعرف على جوانب مختلفة من حياتها هناك قبل أن تغادر موطنها، نراها تسبح فى بحيرة طبريا وتحدق فى الفراغ باتجاه الجولان المحتل، تحاول إلهاء نفسها ويزوغ بصرها، تمازح أخواتها والأصدقاء، تتجول بين أطلال الماضى فى حين تملؤها رغبة فى المضى قدما دون تباكى أو تحسر.. وذلك من خلال الفيلم الوثائقى الطويل «وداعا طبريا» أو «باى باى طبريا» الذى أخرجته ابنتها الثلاثينية لينا سوالم، لكى تغوص فى دواخل الأم ــ الممثلة وتعرف أسباب رحيلها عن فلسطين التى لا تتكلم عنها إلا قليلا.
ربما وجد متابعو الفيلم أنهم لم يصلوا إلى إجابة شافية ووافية، على الأقل كان هذا هو الانطباع الأولى للبعض الذين اعتبروا أن هيام عباس تمتعت فى كنف أسرتها بقدر كبير من الحرية لم يكن متاحا للكثيرات فى مثل عمرها وظروفها، فقد كانت دائمة التمرد وعملت بالفعل مع فرقة الحكواتى المسرحية بالقدس واقترنت بمن أحبت فى الوقت الذى قررت، رغم كونه أجنبيا، ولم يستطع أبوها التصدى لرغباتها وهو الذى كان قد رسم لها حياة أخرى فى خياله كطبيبة أو محامية. ربما فضلت الممثلة ألا تتعرى بصورة كاملة أمام كاميرا ابنتها واحتفظت لنفسها بشىء من الخصوصية والكتمان. اكتفت هيام عباس بقولها بشكل عابر إنها شعرت بالاختناق وأرادت البحث عن ذاتها بعيدا، وبقى الكثير الذى لم يذكر لكن يحس من خلال أحاديث الشخصيات الأخرى.
• • •
الفيلم لا يروى فى نهاية الأمر مسيرة الممثلة وحدها بل يتطرق إلى حيوات أربعة أجيال من النساء الفلسطينيات القويات: هيام وأخواتها البنات ووالدتهن نعمات وجدتهن أم على، هذا بالإضافة إلى لينا المخرجة، الوحيدة بينهن التى ولدت خارج البلاد ونسمع صوتها من وقت إلى آخر والتى تسعى هى أيضا للبحث عن نفسها وعن مكانتها وسط كل هؤلاء. فيلمها الطويل الأول تناول حياة جدتها لأبيها وعلاقتها بزوجها وحياتهما كمهاجرين جزائريين فى فرنسا، وشريطها الوثائقى الثانى خصصته لجانب الأم، وعلى ما يبدو لا يزال فى جعبتها الكثير عن أصولها وشئونها العائلية وثقافتها المختلطة وهويتها المركبة كامرأة تسبح بين عدة عوالم.
حساسية اللحظة التى تمر بها فلسطين وتكرار سيناريو نكبة 1948 الذى عانت منه عائلة هيام التى هجرت قسرا من شمال فلسطين لكن بقيت الأسرة ضمن الحدود، باستثناء أخت واحدة آل بها المطاف إلى مخيم اليرموك بسوريا، كل ذلك يجعل المكان وذكرياته ضمن أركان الفيلم الرئيسية، بل من أهم أبطاله. تختلط حكايته بحكايتهن دون سبق إصرار أو ترصد. تتكرر لحظات وصفها للحدود وترسيمها وهى تقف على مرمى البصر من لبنان وسوريا والأردن، نسرح بخيالنا معها فى هذا الامتداد الجغرافى الذى عكر صفوه قيام دولة إسرائيل وزرع الكيان الصهيونى بالمنطقة. ثم نعود للسباحة مع هيام ولينا فى مياه بحيرة طبريا العذبة التى تنحدر من قمة جبل الشيخ، فقد استعانت المخرجة بمقاطع فيديو حقيقية من طفولتها التقطها والدها الذى يعشق الكاميرا واعتاد أن يوثق بها لحظات من حياتهم اليومية، كما كان الحال فى فيلمها الأول.
• • •
عادت هيام عباس إلى قريتها بعد غياب طويل عقب ولادة ابنتها وذهبت للسباحة معها فى طبريا وهذه الأخيرة فى عامها الأول تقريبا. تتحدث الممثلة عن والدتها نعمات التى لم تغفر لها قط فكرة رحيلها الدائم عن البلاد وعيشها فى المهجر، وطالما رددت على مسامعها: «أنت تفضلين مهنتك!»، تصف هيبتها الطبيعية وصلابتها وتشير إلى تحطم أحلامها وهى فى السادسة عشر من العمر بقيام دولة إسرائيل. ثم نعرف أكثر عن هذه السيدة حين تتكلم أمام الكاميرا أو نرى صورها القديمة حين عملت كمدرسة أو عن حب هيام للباذنجان المقلى بالثوم الذى كانت تقوم بتحضيره ثم تأتى لقطات ما بعد وفاتها، وفى خضم التفاصيل يأتى الكلام عن أم على، الجدة التى عملت بالخياطة وربت عشرة أولاد فى غرفة واحدة... لحظات من الضحك والمزاح والحزن المكتوم، فأكثر ما تشترك فيه شخصيات الفيلم هو أن كل شىء عادى وليس عاديا. يعيشن ما فرض عليهن دون تذمر، لكن يبقى ما نتجاهله ولا يقال... ربما لأنهن سئمن من ترديده. شىء ما عالق بالجو، بالهواء الذى يتنفسن دون أى رغبة فى التطرق إليه، فى حين تحمله الذاكرة وبعمق. يتحكم هذا العنصر غير الملموس فى مسارات الأهل دون أن يدروا، وينطبق ذلك حتى على الحفيدة التى درست التاريخ والعلوم السياسية بالسوربون فى باريس، ثم انخرطت فى عالم الفن كممثلة ومبرمجة فى المهرجانات، ثم بدأت فى إخراج أفلام عن حكايات عائلتها تختلط فيها الذاكرة الجمعية بالفردية، وتعطى مساحة خاصة للنساء.
هم بالفعل «عابرون فى كلام عابر» أخذوا معهم ما شاءوا من زرقة البحر ورمل الذاكرة وانصرفوا، وهو شعور غريب يحمله الفيلم فى طياته بطريقة عفوية وإحساس مرهف.. يعبر عن المعنى دون أن يقوله أو يفسره لكننا نفهم أو بالأحرى نشعر به، ونحن نتابع تسجيلات هيام القديمة والشباب يرقصون الدبكة ويختتمون أفراح القرية بأغان نضالية، فهناك دائما واقع سياسى يفرض حالة على الحياة اليومية.
«وداعا طبريا» (Bye Bye Tibériade) يعرض يومى 16 و20 يناير الحالى بسينما زاوية فى إطار بانوراما الفيلم الأوروبى لكونه إنتاجا مشتركا بين فلسطين وفرنسا وبلجيكا وقطر، وقد سبق عرضه فى مهرجانات دولية مثل فينيسيا ومراكش والجونة، وسيطرح بقاعات السينما الفرنسية خلال منتصف فبراير المقبل. كما أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية عن اختياره لتمثيل فلسطين رسميا عن فئة الفيلم الدولى الطويل (غير الناطق بالإنجليزية) لجوائز الأوسكار لعام 2024 التى سيتم توزيعها فى العاشر من مارس، وبهذا الترشيح تكون فلسطين قد تقدمت بستة عشر فيلما للحصول على الجائزة منذ العام 2003 وحتى اليوم.
التعليقات