أنا والديك والبالونة الحمراء - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 12:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أنا والديك والبالونة الحمراء

نشر فى : السبت 5 ديسمبر 2015 - 11:10 م | آخر تحديث : السبت 5 ديسمبر 2015 - 11:10 م
أتذكر نظرته الثاقبة التى لا تحمل أى معنى، وصدره الذى يليق بمحارب قديم وقد نفش ريشه الأسود معلنا حضوره الطاغى، وسط غرفة ضيقة ترك فيها وحيدا ليعبث بأرجائها. وأمام وقفة المنتصرين تلك، أخذت أرمقه، طفلة صغيرة، بنظرة حذرة، من خلف الزجاج وبيدى بالونة حمراء. يقترب منى ومن الزجاج فتزداد دهشتى، وأتمعن فى ألوانه المتغيرة وأدائه الفخور بما حبته الطبيعة من سمت الزعامة وحب للمناقرة. يعلو صوته بكركرة متتابعة، مؤكدا وجوده، ويقترب. ينقر صحن الحبوب الأبيض، ويقترب. ثم يندفع برأسه ويهرول نحو الزجاج حيث أقف مع البالونة الحمراء. وفجأة أنهى صوت فرقعة البالونة وانفجارها فى الجو الموقف بسلام، وإلا لكان الهجوم المباغت من قبل الديك الرومى الذى يستثيره اللون الأحمر تماما كما الثور الهائج، ولما أنقذت من منقاره الحاد. بل ربما انتظرنى مصير مشابه لمصير الكاتب الفرنسى الساخر والشاعر ــ نيكولا بوالو ــ حين أصابه خلال طفولته ديك رومى غاضب من جراء اللون الأحمر، فى أماكن حساسة من جسده، فتسبب له فى عاهة وعجز مستديمين، رافقاه طيلة حياته ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر.
***
هناك بشر يحاكون الديك الرومى فى بخترته وزهوه وعدوانيته. ينقضون عليك، وإن نهرتهم يطيرون إلى أعلى، ثم يسقطون فوق الأوانى ليحطموها أو جزءا منها، ويزيد صوت التكسير جنونهم فيستمرون فى القفز والهبوط، ولا تهدأ ثورتهم إلا بعد تهشيم كل شىء. ومن هؤلاء من يبدأ فى الهياج، وما إن تهشه حتى ينبطح ويتظاهر أنه يستريح، ليستأنف لاحقا إذا أمكن أو إذا واتته الفرصة. وحين يكون زعماء الدول أو الجماعات من فصيلة الديوك الرومية أو الشركسية التى تهوى الخيلاء والصراع تنقلب الأرض رأسا على عقب. تندلع الحرب فجأة، مع أول ظهور للون الأحمر. ويدفع آخرون ثمن هياج الديك الشركسى.
ينتفخ ريش وذيل هذا الأخير على شكل مروحة، ويسحب جناحيه على الأرض، كما يفعل الديك الرومى حين يسعى لجذب الإناث للتزاوج. يعارك منافسيه بضراوة لكى يحصل على هدفه، ويتبختر.
***
نشبه كثيرا حيوانات وطيور أيامنا. بعضنا يكركر مثل الديوك ليلا ونهارا. تتمدد أوردة البعض من الانفعال، وتصبغ الحمرة وجوههم وأعناقهم، مع أطياف من اللون الأزرق، بحسب درجة الغضب. يطيرون بثقل، دون الارتفاع كثيرا عن الأرض، ويهرولون خوفا. بعضهم يشارك فى عرض مبتذل، فيرقص «باليه الديوك الرومى»، وهى لعبة للتسلية كانت سائدة فى أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر، توضع خلالها الطيور على لوح معدنى ساخن فيقفزون خشية احتراق أرجلهم، ويصاحب المشهد موسيقى هزلية، وكأنهم يرقصون ابتهاجا.
***
السخرية تصل إلى ذروتها حين نرى الديك المزهو بريشه سالفا وهو حليق ومكتف الأرجل، داخل وعاء الفرن، وقد تم حشيه بالمكسرات والنباتات العطرية التى كان يتغذى عليها فى الغابة. تنبعث رائحة القرفة والقرنفل وغيرها من التوابل لتعلن مجىء عيد الشكر فى نوفمبر (بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا) أو عيد الميلاد المجيد فى أواخر ديسمبر. ويأكل الناس الديك، بعد أن يتم ذبحه وتبريده وتجميده وشحنه أحيانا إلى أسواق بعيدة. ينبطح إلى الأبد ويصاب بالسكتة. لا يصبح للبالونة الحمراء تأثير عليه، وعدد غير قليل منها معلق أعلى المنضدة التى وضعت عليها صينية الديك المشوى فى الفرن، وقد رخص سعره منذ أربعينيات القرن الفائت، مقارنة بسنوات بداية اكتشافه كطبق للأعياد، تجتمع عليه الأسر خاصة فى الغرب. بهذه الطريقة يتحول الديك من معنى الفخر والزعامة إلى رمز للمشاركة فى وجبة شهية والود والازدهار، فلا شىء يبقى على حاله والدنيا دوارة كما يقولون.
لم يكن أحد يتخيل حين اكتشفه كريستوفر كولومبوس، فى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى، مع اكتشافه لأمريكا بمحض المصادفة عام 1492، أن الديك الرومى سينتشر على هذا النحو ويقترن بالأعياد، بعد ادخاله إلى أوروبا بواسطة الإسبان وتقديمه لأول مرة على مائدة ملك فرنسا ــ شارل السابع ــ للاحتفال بعيد الميلاد المجيد، بدلا من طبق الإوز التقليدى وقتها، ليذيع صيته ويحل ضيفا دائما على الولائم الملكية ومنها عرس الملك شارل التاسع سنة 1570 بفرنسا أيضا. ثم خلد «ذكرى الديك» المؤلف البريطانى شارلز ديكنز، فى روايته القصيرة «ترنيمة عيد الميلاد» سنة 1843، التى تدور أحداثها ليلة الكريسماس بمدينة الضباب، حيث تزور الأشباح بطل الرواية لتحثه على تغيير حياته، وهنا أيضا فرض الديك حاله على موائد العامة، معلنا حضوره الطاغى لكن بصورة أخرى.
وبما أننا قد وصلنا لموسم الديك الرومى، فلنكتفى على الأقل، فى زمن الغلاء والقتل، بسرد الحكايات من حوله، ولو على سبيل الترفيه.
التعليقات