إحياء التراث وتجديد اللغة عند الأستاذ الإمام - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إحياء التراث وتجديد اللغة عند الأستاذ الإمام

نشر فى : السبت 5 أغسطس 2023 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 5 أغسطس 2023 - 9:20 م
ــ 1 ــ
انصبت الجهود البحثية فى دراسة مشروع الأستاذ الإمام محمد عبده الإصلاحى والتجديدى ــ فى معظمها أو أغلبها ــ على الجوانب الدينية والاجتماعية والتعليمية وإصلاح المؤسسة الأزهرية، وأقلها التفت إلى تأسيسية مشروعه الإصلاحى «التجديدى» فى مجالات اللغة والأدب والتراث، وتحرير أساليب الكتابة.
ولا خلاف على جذرية وتأسيسية إسهام الإمام محمد عبده فى حركة الإحياء والبعث، والتجديد اللغوى والأدبى، والالتفات إلى مصادر التراث العربى الأصيلة فى ينابيعها الصافية (منذ حركة التدوين الأولى وحتى القرن الرابع الهجرى) ويمكن القول إن تلك الحركة الواسعة التى استهلها الإمام محمد عبده بإحياء التراث العربى، وتجديد اللغة العربية، وتجديد الأدب العربى، كانت هى النواة التى تحلقت حولها وانبعثت منها جهود تلاميذه أبناء مدرسة الشيخ محمد عبده، سواء فى مؤسسة الأزهر أو خريجى مدرسة القضاء الشرعى، أو غيرها.
كما لا يسعنا أن ننسى أن الأستاذ الإمام كان من أول الداعين لتأسيس الجامعة المصرية لتقدم على تعلم العلوم والآداب والفنون وفقا للمناهج الحديثة‏،‏ وتسهم فى تجديد الحضارة بعد أن تبين له أن إصلاح الأزهر لا يمكن أن يغنى عن التيار الجديد فى بعث النهضة.
ــ 2 ــ
إنها الدعوة التى ستجد صداها فى تلاميذه المقربين، ونخص من بينهم تلك المجموعة التى تتلمذت مباشرة على يد الأستاذ الإمام، وتلاقى فى تكوينها العلمى والثقافى الرافدان «الموروث» و«الوافد». نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ مصطفى عبدالرازق، والشيخ على عبدالرازق، والشيخ أمين الخولى، وأحمد أمين، وطه حسين، وعباس العقاد، وغيرهم كثيرين.
استطاع هؤلاء جميعا استخلاص الدروس القيمة من تراث الإمام الشيخ محمد عبده، وبلورتها فى رؤى وأفكار وتصورات ترجمت إلى مؤسسات ومشروعات وكتب، وحراك فكرى وثقافى لم نشهد له مثيلا حتى وقتنا هذا.
ومنها رفض التقليد الأعمى والجمود، ورفض غلق باب الاجتهاد، وضرورة تنقية مصادر التثقيف الفكرى، والتعليم الدينى، وضرورة إصلاح الفكر الدينى، وتجديد خطابه تجديدا جذريا وشاملا، وتطوير اللغة العربية، وتجديد أساليبها.. إلخ.
ــ 3 ــ
ولقد كان إصلاح اللغة العربية، وتحرير أساليب الكتابة والبيان مدخل الأستاذ الإمام لقيادة حركة تحديث المجتمع والثقافة المصرية الوطنية فى عصره.‏ وفى ذلك يقول الإمام محمد عبده عن رؤيته هو ذاته لتطور أسلوبه، فيما كتب عن تجربته، وسيرته: «يقولون ــ أى مشايخ الأزهر ــ إن ملكة البيان سهلة التحصيل‏،‏ وإنهم إن شاءوا لما أعجزهم أن يقولوا فيحسنوا‏،‏ ويكتبوا فيجيدوا‏،‏ لا وربك‏،‏ إنهم لأعجز شىء عن أدنى مراتب البلاغة‏،‏ وإن أدمغتهم محشوة بشروح التلخيص وحواشيه وتقريراته‏،‏ ولكنها خلو من ذوق البيان‏،‏ بعيدة عن فهم أسرار البلاغة..‏
إن فن الإنشاء عزيز المنال‏،‏ فقد قضيت فى تعلم الإنشاء ــ أى الكتابة ــ خمسة عشر عاما‏،‏ وما أظن أن ملكة كانت تنضج فى أقل من هذا الزمن‏،‏ مع حسن الاستعداد‏،‏ والأخذ بجد فى تحصيل الوسائل‏،‏ والإكثار من التمرين.‏
ثم يخاطب الأستاذ الإمام الناشئين من الأدباء بقوله‏:‏ «اقرأوا كتب الأدب‏،‏ واحفظوا من مختار الشعر وجيد النثر‏،‏ وحركوا أفكاركم وخيالاتكم‏»، ويكفى أن نراجع بعض نماذج كتابات الإمام فى أول عهده‏،‏ ونضع أمامها نماذج أخرى من كتاباته السلسة المتدفقة بعد النضج كى نشهد حركة الأدب وهى تنطلق من عصر إلى عصر بوعى وبصيرة.

وأتصور أن هذا الأصل الذى أرساه الإمام محمد عبده فى مصادر التثقيف الذاتى والفكرى والأدبى، قد أسس لتقليد إصدار كتب المختارات الأدبية (الشعرية والنثرية) المنتقاة بعناية شديدة كى تؤسس للذائقة الأدبية وتنميها وترتقى بها نحو آفاق أبعد وأعلى.. ومن هنا يمكن تفسير ظاهرة شيوع كتب المختارات التى غزرت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى الثلث الأول من القرن العشرين، ويدخل فى ذلك «مختارات البارودى الشعرية»، و«مختارات الشيخ البشرى»، و«مختارات المنفلوطى» فى الشعر والنثر، و«المنتخب فى أدب العرب» (4 أجزاء) .. إلخ.
ــ 4 ــ
والواقع أن المصادر الأدبية والبلاغية الرفيعة، وما فى مستواها، هى التى سيكون هم الإمام محمد عبده إدخال تدريسها إلى الأزهر الشريف بعد عودته إلى مصر من فرنسا، وكفاحه من أجل قانون إصلاح الأزهر فى نظمه الإدارية والتعليمية والمنهجية‏،‏ واستثماره لفترة عضويته فى مجلس إدارته، وتوليه منصب الإفتاء.
وينقل الدكتور صلاح فضل عن المستشار عبدالحليم الجندى فى كتابه عن الأستاذ الإمام، أنه أتى بكتب جديدة لتدريسها فى الأزهر؛ مثل كتاب «الكامل» للمبرد، و«الحماسة» لأبى تمام، و«الوسيلة الأدبية‏» و«الكلم الثمان»‏ للشيخ حسين المرصفى (وهو غير سيد المرصفى الذى كان أستاذا لطه حسين فى الأزهر)‏.
كما أوفد الشيخ محمد عبده مبعوثا إلى إسطنبول لتحقيق نسخة من كتاب عبدالقاهر الجرجانى‏ «أسرار البلاغة» جاءته من طرابلس الشام، مع وجود النسخة التى قام بتدريسها فى بيروت‏،‏ ليقدم الكتاب مع‏ «دلائل الإعجاز»‏ للجرجانى أيضا إلى مجلس الأزهر‏،‏ وليستلفت نظر الأمة إليه بتقريظ نشره (المنار).‏
فكانت هذه الكتب التى تخيرها الإمام، كما يقول المرحوم الدكتور صلاح فضل، هى التى أيقظت همة النابهين من الدارسين للأدب والبلاغة‏،‏ ولا تزال تحتفظ بقيمتها المتجددة فى تغذية المواهب الأدبية‏،‏ ويعاد اكتشاف أهميتها فى الاتجاهات البلاغية الحديثة والمعاصرة.