يهمنى لونك ويهمنى عنوانك - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 4:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يهمنى لونك ويهمنى عنوانك

نشر فى : السبت 5 مارس 2022 - 8:20 م | آخر تحديث : السبت 5 مارس 2022 - 8:20 م

عمق مظاهر العنصرية التى نعيشها حاليا، وتجذرها التاريخى، يجعلها تبدو مثل حيوان الهيدرا الذى جاء ذكره فى الأساطير الإغريقية القديمة، له جسم ثعبان وعدة رءوس، كلما قطعت رأسا تنمو أخرى، فلديه قدرة على التجدد والتأقلم الدائم مع التغيرات. نظن أحيانا أنها كانت ضمن ملامح عصر بائد وأن تجليات العنصرية ونظرياتها ارتبطت بالتطور العلمى فى القرن التاسع عشر وعلم الوراثة والفروقات بين الأجناس المختلفة التى استغلها بعض القادة السياسيين مثل هتلر وموسولينى فى فترة ما بين الحربين العالميتين، لكن الكثير مما يحدث يجعلنا نشعر أننا فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الفائت.
فى الأيام الماضية، طالعتنا الوجوه المختلفة على الشاشات لتقول بتلقائية شديدة ما معناه إن هناك فارقا كبيرا بين لاجئين سوريا والعراق وأفغانستان وبين النازحين الأوكرانيين، وإن هؤلاء المنكوبين من أصحاب البشرة البيضاء والشعر الأصفر الذين يسكنون فى الجوار ويركبون سيارات مثل سائر الأوروبيين لا يمكن مقارنتهم بأبناء البلاد البعيدة الذين كُتب عليهم اللجوء والسير على الأقدام حاملين بقجهم. هذا بخلاف ما ورد على الإنترنت من شهادات مسجلة بالصوت والصورة تبين سوء المعاملة التى تعرض لها أصحاب البشرة الداكنة على الحدود مع بولندا مثلا، كما لو كان الفرار من الموت حقا للبيض دون سواهم، أما السُمْر فقد كان يتم أحيانا منعهم من الصعود لحافلات نقل المسافرين. انتشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعى يبين كيف تم انتزاع سيدة نيجيرية تحمل طفلا رضيعا من القطار لكى يحظى بكرسيها شخص آخر، أما تغريدات مواطنها ألكسندر سومتو (NZE) فقد ورد فيها تعرضه ورفاقه للإهانة بالروسية والأوكرانية عند محاولتهم مغادرة مدينة كييف باتجاه وارسو، لكن عندما اكتشف جلادوهم أنهم يفهمون اللغة وأنهم قاموا بتسجيل مشاهد التوبيخ والتحقير لهم بالفيديو تراجعوا قليلا.
• • •
الفيديوهات تفضح مثل هذه الممارسات وقد رأينا ذلك عدة مرات من قبل فى الولايات المتحدة الأمريكية، حينما اندلعت مظاهرات منذ التسعينيات على خلفية انتشار تسجيل أو آخر يظهر سوء معاملة أمريكيين من أصول أفريقية، كان آخرها حادثة مقتل جورج فلويد فى مايو 2020، وانبرى المحللون فى شرح جذور العنف وارتباطه بميراث العبودية والاستعمارية، رغم النضال الطويل لحركة الحقوق المدنية فى الستينيات.
يكفى أن يحدث شىء ما، مشاحنة عابرة أو صراع أو حرب حتى تظهر العنصرية مجددا، «وكأنك يا أبو زيد ما غزيت»، فعلى عكس ما نظن هناك علاقة وثيقة بين العنصرية وبين الحداثة التى تقوم على ديناميات تضمين وإدماج من ناحية، وديناميات استبعاد من ناحية أخرى، إذ تسعى نحو توحيد النظم المعيارية وتوسع الأسواق وفى الوقت ذاته نحو فرض التبعية على الأطراف الجيو ــ اقتصادية وترسيخ تراتبية العناصر المكونة للمجتمع. بعض المتخصصين فى الشأن الأوروبى تحدثوا فى بدايات الألفية الثانية عن حرب الأعراق ونظام أوروبى جديد، موضحين أنه منذ سقوط حائط برلين، وما تلاه من انهيار الاتحاد السوفيتى واندلاع حرب الخليج ونحن بصدد مرحلة مختلفة عن ما سبق فى السبعينيات والثمانينيات، خط فاصل شهدنا من بعده توجها أكبر نحو تقسيم الجماعات الإنسانية إلى أجناس فى مراتب متباينة، صار المسلمون مثلا وأصحاب البشرة الداكنة موضع اتهامات دائمة لاختلافهم الثقافى، وتكررت الحوادث التى تبرز ذلك. ربما لم يعد من اللائق استخدام ألفاظ وعبارات معينة حين نتكلم عن هؤلاء «المختلفين»، لكن الممارسات فى أرض الواقع ظلت تذكرهم باختلافهم وتجعلهم موضعا للانتقاد والشك لأنهم لا يحملون نفس القيم الغربية السائدة ولا الملامح الشخصية.
***
اختفت القطبية الثنائية وسادت التوجهات الليبرالية التى توحى بتراجع دور الدولة القومية أمام القوى التى تتخطى الحدود الوطنية، لكن فى ظل كل هذه التغيرات عادت الحروب والصراعات المسلحة إلى الظهور كوسيلة للتدخل فى مناطق تعتبر ذات أهمية جيوسياسية واقتصادية حيوية، شهدنا رغبة فى إعادة رسم خرائط العالم وفقا للمصالح والأهواء، ما نتج عنه نزوح الملايين من البشر وارتفاع عدد اللاجئين والمهاجرين بشكل غير مسبوق. تنامت النبرة الشعبوية وعادت النزعات القومية للخروج إلى العلن وتصاعدت التيارات اليمينية المتشددة، ما جعلنا نشهد حاليا ما نشهده من مظاهر عنصرية وفاشية، وكأننا رجعنا قرنا إلى الوراء.
تحتاج أوروبا إلى الأيدى العاملة، لكنها تتبنى سياسات هجرة عجيبة غريبة تزيد من تفاقم المشكلة ومن الممارسات العنصرية. صارت مخيمات ومراكز اللاجئين على الحدود تشبه معسكرات الاعتقال، وسوق العمالة غير الرسمية يتيح مزيدا من الاستغلال للبشر.
فى الآونة الأخيرة، مع كورونا والحروب، شعرنا بمدى هشاشة ما كنا نظنه حضارة وحداثة. عاد الوجه القبيح للعنصرية والفاشية بكثير من الفجاجة. تهاجم الهيدرا أى إنسان أو وحش ولا يؤثر فيها السلاح، هكذا تقول الأسطورة، إلا أن هذه الأخيرة تروى فى النهاية كيف جاء هرقل وقتلها، وبالتالى علينا أن ننجح فيما قام به هرقل.

التعليقات