أغنيات مشفرة من فلسطين - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أغنيات مشفرة من فلسطين

نشر فى : السبت 4 نوفمبر 2023 - 9:55 م | آخر تحديث : السبت 4 نوفمبر 2023 - 9:55 م
قبل عام تقريبا انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعى أغنية تؤديها عجوز فلسطينية، تدعى الحاجة حليمة، تجاوز عمرها 84 سنة وهى ترتدى زيا تراثيا. تفاعل الناس بشكل كبير مع كلماتها حين أنشدت: «شدوا بعضكم يا أهل فلسطين.. شدوا بعضكم، ما ودعتكم، ما ودعتكم، رحلت فلسطين، ما ودعتكم، على ورق صينى لأكتب بالحبر على ورق صينى، يا فلسطين، على اللى جرى لك يا فلسطين». أعيد مونتاج الفيديو ليظهر البعض مرددين الأغنية مع الحاجة حليمة التى اشتهرت وصار لها حساب على تطبيق «تيك توك»، وعرفنا اسمها بالكامل وقصتها، فهى حليمة سليمان الكسوانى، هجرت من قريتها «بيت اكسا» بقضاء القدس وعمرها عشر سنوات، وتقطن فى مخيم الزرقاء بالأردن منذ العام 1961، ومع ذلك فهى تذكر تفاصيل الأرض والجغرافيا وأسماء الجيران ومعلميها ولحام القرية (الجزار) وتحفظ عن ظهر قلب الأغنيات القديمة التى ترود اللحن ذاته فى كل مقطع ويطلق عليها «ترويدة»، إذ تردد اللحن المرتبط بقالب السامر الذى ينسب إلى وسط فلسطين وجنوبها.
تاريخ هذا النوع من الفلكلور يعبر بعمق عن حكاية البلاد، فهو كسائر الأغنيات الشعبية يتسم بالبساطة والعفوية مما يسمح له بالاستمرار عبر العصور، ويستطيع استيعاب كلمات ومصطلحات جديدة، ويسجل الأحداث والمواقف لأنه يستجيب لحاجة الناس فى أوقات بعينها. يقول الباحثون إنه من الصعب التحديد على وجه الدقة متى ظهر هذا الغناء الملىء بالحزن والأشواق والحب، لكن يرجح أن نشأته كانت مع نهاية العهد العثمانى وبداية الانتداب البريطانى. اخترع الفلسطينيون الترويدات ذات الكلمات المشفرة، التى قد تبدو أحيانا كأنها تعويذات غير مفهومة، لكى يتحايلوا على المستعمر البريطانى ويتمكنوا من تمرير الرسائل بين المعتقلين وأهاليهم أو بين الأسرى والفدائيين القادمين لتحريرهم. اعتمدت الترويدة على لغة جديدة وهى قلب الكلمة أو إبقاء آخر حرف منها سليما أو عكسها بدون الإبقاء، فيقولون مثلا: «بأو لاصح دوى لساح لرقية رفوصية» بدلا من «أبو صالح ودى سلاح لقرية صفورية»، وفى مرات أخرى كان يضاف حرف اللام للتمويه لذا يطلق على هذا النمط من التشفير «الملولالة» أو «الملالاة»، وقد تختتم الجملة بكلمة «الرويليلو»، كما هو الحال فى واحدة من أشهر الترويدات التى تغنت بها أمهات الأسرى لتبشيرهم باقتراب الخلاص، وهى بعنوان «شمالى»: «وأنا ليليبعث معليلريح الشمالى لالى يا رويليلوووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالى) ... وطالالات الغربة الليلة واشتقنا ليلى للهم يا رويليلووو (وطالت الغربة واشتقنا ليهم) ».
• • •
أصل كلمة الترويدة من رود يرود أى ردد لحنا وكرره مرات متتالية، فهو قالب يعتمد بالفعل على تكرار لحن بالرغم من تغيير الكلمات أو الموضوع، أى أن الأغنية تبدأ وتنتهى بالجملة الموسيقية الرتيبة ذاتها، وتلتزم بجنس مقام واحد (عجم أو كرد مثلا) وهو قطعة مكونة من 3 أو 4 علامات موسيقية فقط. وقيل أيضا إن الترويدة جاءت من الورد (يا واردات على النبع)، بمعنى القدوم إلى النبع والبدء بتعبئة واستخدام الماء، إذ كانت النساء الفلسطينيات يغنين الأهازيج وهن على نبع الماء متحديات بعضهن البعض بتكرار الألحان مثلما يحدث فى معظم غنائهن التقليدى.
كان يكثر ترديدها أيضا فى المناسبات مثل وداع العروس فى ليلة الحناء وعند رحيل قوافل الجمال وحلب المواشى أو فى مواسم اندثر الاحتفال بها منذ النكبة مثل موسم النبى موسى وموسم النبى صالح وموسم الشيخ المنطار. ويحكى أن الشعراء الشعبيين فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى بعد فقدهم للأمل فى عودة الدولة العثمانية للتدخل فى أزمات بلاد الشام لجأوا إلى تشفير هذه الأغانى للالتفاف على الأوضاع.
شهدت هذه الفترة بداية النضال النسائى الفلسطينى، وبرز تنظيم «رفيقات القسام» الذى تأسس عام 1932 وانتهج الكفاح المسلح. تدربت عضواته بشكل سرى على يد الشيخ الأزهرى المجاهد عز الدين القسام (1883ــ1935) ، الذى قاوم الانتداب الفرنسى على سوريا ومثيله البريطانى على فلسطين حتى توفى فى إحدى المعارك، وكان مقتله ضمن أسباب اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 للمطالبة بالاستقلال وإنهاء سياسة الهجرة المفتوحة لليهود وشراء الأراضى. كان القسام مؤمنا بدور المرأة فى النضال فخرجت من المجال الاجتماعى القائم على التوعية وجمع التبرعات إلى ساحة القتال. وبعدها بسنوات تكونت فى يافا جمعية «زهرة الأقحوان» التى تحولت من جمعية نسائية اجتماعية وخيرية إلى حركة مقاومة عسكرية ناشطة خلال عامى 1947 و48.
• • •
فى مثل هذه الأجواء كان من الطبيعى أن تكون الترويدة غناء نسائيا بامتياز. عبرت السيدات والفتيات من خلاله عن مشاعر الحب فى مجتمع محافظ وعن انخراطهن فى المقاومة، فكانت ترويدة مثل «يا حلولوبنا (يا حبنا)، يا طيرليلى خذ مكتلوبنا (يا طيرى خذ مكتوبنا)، حطلى غربال، شيللى غربال»، أو ترويدة «يا طالع الجبل» التى أخبرن بواسطتها «المحبوس» أو «الغزال» فى الأغنية أن الفدائيين آتون ليلا لتحريره وأن إشارة بدء العملية هى رؤية النار موقدة.
لايزال بعض أهالى المخيمات يستخدمون تلك اللغة المشفرة، كما سعت بعض الفنانات الفلسطينيات مثل الراحلة ريم البنا ورلا عازر وميس عبدالهادى وسناء موسى إلى الحفاظ على هذا التراث الشفهى وإحيائه، فهذه الأخيرة مثلا تعمل منذ احترافها عام 2003 على جمع وتدوين الترويدات القديمة، إضافة إلى غنائها، وتقوم وحدها بمهمة تحتاج إلى مؤسسة مختصة. اكتشفت ترويدة «يا مريم» فى قرية «بتير» بالقرب من بيت لحم، وترويدة «بدوية» وصلتها من سيدة فى الجليل توفيت قبل سنوات، وهكذا تحاول أن تتشبث بذاكرة هؤلاء الذين ينطقون بما لا تحكيه الكتب ولا تسقطه غلبة المنتصر، كى لا تندثر الترويدات مثلما حدث مع موسيقى الساحل التى اختفت بموت الصيادين بعد النكبة، إذ كان من الصعب توارث هذا القالب المرتبط بأشغال البحر بعد التهجير.
النساء هن حارسات التراث الشفهى الفلسطينى وقد ساهمن حتى فى نقل قوالب كانت حكرا على الرجال مثل السامر والشوباس والزجل، إضافة إلى دورهن فى تأجيج الجانب الرومانسى للمقاومة. أصواتهن تأتينا حاليا بصراخ وعويل، ونتمنى أن تكون هناك عودة للموسيقى عن قريب قبل أن تفنى الأرض ومن عليها، ويرتفع غناء الحاجة حليمة مجددا وهى تنطق الضاد بما يشبه الظاء كعادة أهل البادية ومناطق الريف: «يا ولاد العرب.. لموا بعضكم! (..) بالحبر الصينى لأكتب ع الورق، بالحبر الصينى، على اللى جرالك يا فلسطينى».
التعليقات