غَـــــمَّ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 8:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غَـــــمَّ

نشر فى : الجمعة 4 أغسطس 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 4 أغسطس 2023 - 8:15 م
في الأنباءِ التي تحملها الإذاعاتُ الصباحيةُ كثير الغَم. ليس فقط لطبيعتها التي صارت مَشحونةً بمآس مُتنوعة؛ عالميَّةٍ ومحليَّةٍ على حدٍ سواء، بل لأنها باتت أيضًا مُعبأةً بفَيضٍ من المُبالغاتِ والمُراوغاتِ، يأنفُ السامع التعاملُ معه، وتتولاه الرغبةُ في الانتقالِ إلى مَحطةٍ أخرى؛ لكنه سرعان ما يُدرِك أن البثَّ واحدٌ والأفكارَ واحدةٌ، والغمَّ مُشترَك.
• • •
يأتي الفعلُ غَمَّ في قواميس اللغة العربية بمعنى أحزن وضايق، فإذا غمَّ المرءُ الناسَ من حولِه؛ كان القصد أنه تسبب لهم في الحزْنِ والأسى، الغَامُّ بتشديد الميم هو الفاعلُ والغمُّ مصدر. ثمَّة معنى إضافيّ أٌقل استخدامًا؛ فغمَّ الشيءَ أيّ غطاه وواراه بما يمنع رؤيته، والغَمَامةُ هي السَّحابةُ التي تتبدَّى في السماء فتبدلُ مَنظرَها.
• • •
في الليالي المُضيئة، قد يحجبُ تألقُ القمرِ النجومَ إذ يتلاشى في حضورِه ضوؤُها، ويُقال حينها قد غَمَّ القمرُ النجومَ وسترها، والحقُّ أن القمرَ لم يعد في أيامنا هذه مُذنبًا، بل صار مثله مثل النجوم ضحيةً؛ إذ يختفي معها وراء الأبنيةِ العالية، تكسر الأنوار المُصطنعةُ الغزيرةُ بهاءَه، كما تعكر المُلوثاتُ التي نُطلقها بلا وازعٍ في الجوِّ صفاءَه ونعومَته؛ فيعزُّ على غالبِ الناسِ الاستمتاع به، وبما طافَ الأفقَ وزيَّنه من أجسام.
• • •
يأتي الفعلُ غُمَّ بضمّ الغين بمعنى خَفيَ؛ ولا أشهر من استعماله كما جرت العادةُ على أعتابِ شَهر رمضان، فور أن يعجزَ المُستطلعون عن رؤيةِ الهلال، ويُقال حينئذ؛ قد غُمَّت عليهم رؤيته، استلهامًا للآية القرآنية. كثيرًا ما يتحوَّل الأمر إلى منافسةٍ تتبارى فيها بلدانٌ وأنظمَة، وتتحوَّل المناسبةُ من الروحانيَّة إلى السعيِ المَحموم لفرضِ الهَيبةِ والحضور. يتلاسن المسئولون؛ كلٌّ يريد أن يصبحَ المَتبوعَ لا التابع، وينتهي الأمر بفريقين يَصوم أحدهما قبلَ الآخر، ويتندَّر الناسُ بمعركةٍ هي على أتفه ما يكون.
• • •
إذا عميَ المرءُ عن إبصار ما حوله، وأخذته المظاهرُ وغرَّته ببريقها؛ كان من السَّهلِ أن يقعَ فريسةً للخداع، وإذا غُمَّت عليه الحقائقُ؛ سقطَ في الشِراك المَنصوبَة، لا يكون له منها مَخرجٌ سوى أن يرفعَ الغَمامَ عن عينيه وأن يَسترجِعَ قُدرتَه على التَّمييز. ثمَّة مَن قد غُمَّت عليهم الحقائقُ فيما هي واضحةٌ جليَّة، ومَن خضعوا بإراداتِهم وأغمَضوا أعينَهم عن المشاهدِ القَّبيحة المُفجِعة، ومَن شاركوا في التلاعُب وسَعوا إلى تجميلها؛ وإذ تلاشى الساتر وانكشفَت الصورةُ، بدا الغمُّ عظيمًا والكربُ هائلًا.
• • •
يقول العبقريُّ الراحلُ صلاح جاهين في رباعياتِه: ارفع غماك يا تور وارفض تلف.. واكسر تروس الساقيه واشتم وتف.. قال؛ خطوه كمان وخطوه كمان.. يا اوصل نهاية السكه؛ يالبير تجفّ. كان حسُّ جاهين من أرهَف وأنضَج ما يُمكن للمَرءِ أن يُصادفَ، كلمتُه سهمًا راشقًا في عين الهدَف، تضربُ شِغافَ القلبِ بدقَّةٍ مُتناهية ولا تحيد. الثور يَمضي في طريقِه التي لن تنتهي أبدًا، لا يُدرك أنه يدور حولَ نقطةٍ ثابتةٍ دون أن يسلكَ خطًا واحدًا مُستقيمًا، وأن النهايةَ هي نهايتُه هو ذاته؛ لا نهاية البئر أو الطريق، إنما قد جُبِلَ على الصَّبر وعلى اختيارِ الأيسرِ والأسلَم.
• • •
إذا تعرَّض الواحد لما يأنف وأصابه الامتعاضُ الشديد والقَرف؛ غمَّت نَفسُه وانقلب مزاجُه وربما دهمَه القيء. كثيرًا ما نُعبِّر عن اشمئزازنا في أحد المَواقف بقولة: غمَّت عليّ نَفسي، والتعبير شائع مُتداوَل، لا نقصد به بالطبع أن النفسَ قد خفِيَت أو غَمضَت، بل ربما استلهمناه من هذا الأثر الذي يتركه الضيقُ الغامر في الأنفس؛ بما يجعلها تعافُ الطعامَ وترغبُ عنه؛ بل وتنحو إلى لفظِه من الجَّوف، وما أكثر الكلماتِ التي تستدعي الغَمَّ والبؤس، وما أوفرَ الأفعال التي تورثُ الشُّعورَ بالتعاسَة، والحقُّ أن كذِبَةً تُنسَج هنا وخديعةً تُحاك هناك، لكفيلة بأن تجلبَ إلى المرءِ شعورًا بالغثيان، فتنقبضُ دواخلُه وتتقلَّص أمعاؤه، وتغتَم نفسُه ويصبح قابَ قوسين أو أدنى من أن يُفرغَ ما في حشاه.
• • •
"جاكم الهًمُّ والغَمُّ"؛ دعوة درامية يرتفع بها صوتٌ غاضِبٌ لرَجُل أو امرأة، تتوَجَّه غالبًا لأحد الأبناء أو البنات، تُعلِن اعتراضَ صاحبها وحنقَه على مَسلَكٍ لا يَرضى عنه. مِن أشهر مَن صاحوا بهذه العبارةِ مرارًا وفي وجه الجميع؛ العمدة سُليمان غانِم، أحد أحبّ وأطرَف شَخصياتِ مُسلسَل ليالي الحِلميَّة، وواحد من أجملِ وأبرز أدوار العظيم صلاح السعدني.
• • •
الهَمُّ والغَمُّ في العادة رفيقا دربٍ واحد. الأولُ يُثقِلُ الكواهِلَ التي تحمله، والثاني يُرهِق الروحَ ويُفقدها حيويَتها وألقَها. كثيرًا ما تؤدي الهُمومُ المُزمِنةُ إلى حالٍ من التبلُّد والجُّمود؛ إذ ينهزمُ المَرءُ تحت وطأتِها ويَعزفُ عن الاستمتاع بأيّ نشاطٍ، ويَفقد مشاعر الفرحِ والسُّرور لصالح ما غَمَّه وأفسد عليه حياته. لا تقود مُحاولاتُ الترفيه المَبذولة حينذاك إلا لمزيدٍ من الإغراقِ في السُّوء، فمِن الغَمّ ما لا يزول إلا بزوال المُسبِّب.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات