الحوارات الاقتصادية.. ومحاورات أفلاطون - مدحت نافع - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 8:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحوارات الاقتصادية.. ومحاورات أفلاطون

نشر فى : الإثنين 4 مارس 2024 - 7:10 م | آخر تحديث : الإثنين 4 مارس 2024 - 7:10 م

جميل أن نعود إلى الحوار الوطنى، خاصة إذا كان الحوار منصبا على الهموم الاقتصادية، التى باتت مدى اهتمام كل بيت فى مصر. لكن ما سبق أن ذكرته عن محددات وقيود ما هو متوقع من مخرجات ذلك الحوار، فى مقالات وإطلالات إعلامية متعددة، يظل قائما، ويحتاج منا إلى نظرة أكثر عمقا وإنصافا، خاصة بعدما دخل قطار الحوار الوطنى الاقتصادى محطته شبه الأخيرة.
• • •
فى البداية لا يسعنى إلا أن أتوجه بالشكر لكل من الأمانة العامة والأمانة الفنية للحوار الوطنى، لما تبذلانه من جهود مضنية فى إدارة الحوار، والعمل على تشكيل وصياغة مخرجاته. وقد لمست بنفسى كيف يتفرغ الدكتور ضياء رشوان والمستشار محمود فوزى بصورة تامة للاضطلاع بتلك المهام النبيلة.
غير أن أى حوار يجب أن يؤسس على قواعد راسخة من البديهيات والمسلمات، وأن ينطلق من مساحات فكرية مشتركة بين المتحاورين، حتى يمكن أن يصل إلى أى قدر من التوافق حول القضايا المطروحة. التوافق وليس الإجماع، بطبيعة الحال، هو ضالة أى حوار بناء. والصيغة التوافقية التى ينتهى إليها هذا الحوار، من شأنها أن ترتقى به إلى مصاف الدساتير المؤسسة للدول، أو تهوى به إلى درجة أدلة التعليمات السطحية التى يمكن لطلاب المدارس الابتدائية أن يجمعوها فى قصاصات على مجلات الحائط المدرسية.
الشرط الأول إذن لتحقيق التوافق حول القضايا المطروحة، هو أن يتمتع المتحاورون بخصائص فكرية وخلفيات ثقافية مشتركة. لا يعنى ذلك أن يكون الحضور صورة كربونية من نموذج واحد، وإلا ما فائدة الحوار وما نفعه؟! ولكن التنوع الثقافى الحميد، يتطلب إثماره السريع أن تضيق مساحات الخلاف العقائدى والبنيوى بين المشاركين فى أى حوار، أو أن يتسع المدى الزمنى الممنوح، بما يسمح بتقريب وجهات النظر والتلاقى عند نقاط مشتركة ذات قيمة مضافة. ولأن المدى الزمنى للحوار الوطنى فى ملفاته الاقتصادية كان شديد الضيق، فلا مناص من اللجوء إلى البديل الأول، الذى يسمح باختيار مجموعات من المتحاورين عالية التجانس، حتى يمكنهم الوصول إلى توافقات سريعة حول قضايا غاية فى الأهمية والحساسية للمجتمع بأسره.
الحوار الوطنى فى نسخته الحديثة لم يكن كذلك. فقد تشعبت المدارس الفكرية للحاضرين بصورة واضحة، لم تراعِ الوزن النسبى لتمثيل تلك المدارس فى كثير من الجلسات. ولم تسفر النقاشات عن أى نوع من التلاقى الفكرى إلا عند مستوى شديد السطحية، لأن العمق يغص بالخلافات، والشيطان يكمن فى التفاصيل. لذا فقد شاهدنا الكثير من التوصيات الخاصة بموضوعات هامة تناولها الحوار: مثل السيطرة على التضخم، والسياسة النقدية، ووحدة الموازنة العامة، والعدالة الاجتماعية... تخرج شديدة العمومية، على نحو قد يعطى انطباعا لصانع القرار بأن أصحاب تلك التوصيات ليسوا على درجة مناسبة من التخصص، ولا القدرة على الاشتباك مع التفاصيل الحيوية الهامة للموضوعات المثارة.
التجانس بين الحاضرين يسمح بالتوصل إلى مناطق توافقية أكثر تعمقا فى القضايا. يسمح بالاشتباك مع تفاصيل السياسات النقدية المناسبة للسيطرة على التضخم، دونما الحاجة إلى تسوية الخلافات حول مفهوم السياسة النقدية، ومصادر التضخم، وخصوصية الحالة فى الدول النامية! لا يعنى ذلك أن تلك المسائل قليلة الأهمية، لكنها محسومة بالضرورة عند التيار الغالب من الاقتصاديين حول العالم main stream economists الأمر الذى يجعل إعادة بحثها مسألة فلسفية أكثر منها منهجية علمية للتوصل إلى التوافقات العملية المرغوبة، فى ظل قيد زمنى لا يتجاوز جزءا من الأسبوع.
أما لو تهيأت لنا رفاهية البحث فى أصل الأشياء، والعودة إلى أسباب وجود البشر ومجتمع العمران ودور الدولة فى الاقتصاد (فى عموميته) فذلك ربما يتطلب منا شهورا من الجدل الدائرى، ولن نتمكن من حسم ذلك الجدل ولو اجتهدنا. لكن الرياضة الفكرية ذاتها ستكون منتجا لطيفا، لا يختلف كثيرا عن محاورات أفلاطون، التى سوف نتعرض لها بعد قليل.
• • •
الشرط الثانى لنجاح وفاعلية مخرجات هذا النوع من الحوارات، هو فتح الباب أمام قدر متسع من الأفكار المبتكرة الخارجة عن نطاق المحفوظ والمعلوم بالضرورة. هذا لم يكن ممكنا فى حوارنا الوطنى الراهن، نظرا للقيود العديدة التى فرضتها منصة إدارة المحور الاقتصادى، والتى تعددت لتشتمل على قيود زمنية، وموضوعية وأخرى متصلة بتوقعات الأطراف المعنية... كلها قيود لم يكد المتحدث أن يتم معها جملة متصلة بغير مقاطعة متكررة من المنصة. ومن المحتمل أن القيد الزمنى الذى فرضته المنصة على نفسها أو فرض عليها بحكم السياق العام للقضايا، هو الذى تسبب فى نشأة سائر القيود. لكن المحصلة واحدة، وهى التشتت وعدم القدرة على الإبداع، والعودة دائما إلى المنطقة الآمنة، التى لا تحتمل الاجتهاد تفاديا للخطأ. تلك المنطقة الآمنة عادة ما تكون شديدة الضحالة، خالية من العمق المطلوب لتحليل القضايا واقتراح الحلول.
• • •
الشرط الثالث والذى ربما يأتى أولا فى الترتيب المنطقى للأحداث، هو أن تكون لدى إدارة الحوار توقعات محددة لمستهدفات المخرجات. فالحوار الذى يتوقع البعض أن يمثل حلا سحريا لأزماتنا الاقتصادية لا يمكن أن ينشأ فى تلك الغرف، ولا أن يساهم فيه غير المختصين بسهم أكبر من أصحاب التخصص والصنعة. وإذا كانت المخرجات المتوقعة تتعلق بتوصيات عامة، فإن المسودات المعروضة للمناقشة والتى لم يسمح الوقت إلا بتناول القليل من محتوياتها، يمكن أن تؤدى الغرض. ولكن الزمن الذى استغرقه الحوار منذ انطلاقه بدعوة رئاسية من قرابة العامين، يجب أن يطمح إلى ما هو أكثر من هذا. ولكى يتحقق هذا الطموح المفترض، فإن علينا أن نتناول عددا أقل من الموضوعات، بدرجة أكبر من العمق، ومستوى أعظم من التجانس الفكرى بين المشاركين، الذين حضر منهم من لم تسبق له المشاركة فى أى من جولات الحوار السابقة!
• • •
الشرط الرابع لنجاح الحوار الوطنى هو شرط متصل بالشروط السابقة، وينطوى على استعداد جميع الأطراف للتنازل عن قدر من معتقداتهم الفكرية، وانحيازاتهم المنهجية، لصالح التوافق المطلوب. هذا الاستعداد قرين التجانس المشار إليه سابقا، وهو مطلب ضرورى للتجرد عند الجدال، والتنازل عن بعض المكاسب الضيقة لصالح العوائد الكبيرة التى يمكن أن تحققها البلاد والأجيال المتلاحقة. هذه القدرة على التنازل والتضحية، كانت سببا فى نجاح الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية ودستورها الجامع فى التأليف بين مختلف الولايات، وبناء أكبر قوة عرفها التاريخ الحديث، على أسس من التعددية والتنوع. استقرار الدستور وتعديلاته الشهيرة التى تم التوافق حولها لضمان تماسك الولايات المتحدة عبر العقود، كان ثمنه التنازلات والتضحيات، ومن نصوص هذا الدستور ما يلفظه اليوم غالبية السكان، مثل التعديل الثانى الذى يسمح بحيازة السلاح لكل مواطن، لكن فتح الباب أمام تعديله يخلق من المشكلات ما قد يتعذر التعامل معه لاحقا.
• • •
كان ذلك محور ردى على صديق عزيز أخبرنى أثناء الحوار، أنه كان يحسب أهل السياسة أشد اختلافا فى محاوراتهم من أهل الاقتصاد، لكن الحوار الاقتصادى الأخير كشف له عكس ذلك. فظنى أن هذا الخلاف الكبير الذى حار له صديقى، سببه أن منطلقات الحوار سمحت لأصحاب العقيدة الاقتصادية أن يؤسسوا مداخلاتهم عليها. فأصحاب الفكر الاشتراكى كانوا يدافعون عن مدرستهم الفكرية، وأصحاب الفكر الرأسمالى والنيوليبرالى فعلوا كذلك، لكن الاختلاف الوظيفى القائم على قبول الآخر، والتعامل مع القضية الاقتصادية انطلاقا من دستور الدولة وتشريعاتها المختلفة ومنهجها المعلن، كان يحتاج إلى مزيد من التجانس الفكرى والثقافى الذى سبقت الإشارة إليه.
الحوار الوطنى الاقتصادى تشابهت معضلته إذن مع محاورات فلاسفة الإغريق. فقد ظل يدور فى فلك الأفكار العليا، والعلوم المعيارية، المتصلة بالحق والخير والجمال، على حساب العلوم الإنسانية والطبيعية. وها هى محاورات أفلاطون الأربعة (محاورة أوطيفرون ــ محاورة الدفاع ــ محاورة أقريطون ــ محاورة فيدون أو خلود الروح) تدور فى الفصل الأخير من حياة المعلم الأول «سقراط»، بداية من طلب محاكمته باتهامات عدة منها الهرطقة والسفسطة وإفساد الشباب، وحتى مشهد موته الأخير... فمحنة سقراط التى جسدتها محاورات «أفلاطون» لم تعد أن تكون فصلا كاشفا لطبيعة البشر المقاومة للحقيقة، متى كانت مؤلمة أو صادمة.
فى المحاورة الأولى «أوطيفرون» يحاول «سقراط» أن يقنع محاوريه بأن البحث والتجربة يمكنهما أن يشكلا وعيا جديدا، فيجب ألا نؤمن بكل ما ورثناه من أفكار ومعتقدات. وقد كنا فى أشد الحاجة إلى تقديم العلم والمشاهدات على العقيدة الاقتصادية فى حوارنا الوطنى الاقتصادى من أجل إعادة ترشيد المسار. وفى محاورته «الدفاع» يتمسك «سقراط» برسالته التى يؤمن بها، وهى البحث عن الحقيقة، وهى ضالة كل اقتصادى واقعى يؤمن بقيمة البحث العلمى. وفى المحاورة الثالثة «أقريطون»، يؤكد «سقراط» على قيمة التمسك بالحياة الطيبة، حينما يرفض أن يهرب من الموت الذى ينتظره. أما محاورته الأخيرة «فيدون»، فيسكب خلالها «سقراط» علمه على تلميذه فى حواره الأخير معه قبل موته بساعات.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات