x قد يعجبك أيضا

مؤرخ أمريكي يفتح ملف الآباء المؤسسين بين مبادئ الحرية وواقع العبودية وتهجير السكان الأصليين من أراضيهم عبر كتاب جديد

نشر في: الأربعاء 26 نوفمبر 2025 - 11:48 ص
آخر تحديث: الأربعاء 26 نوفمبر 2025 - 11:49 ص
منى غنيم

هل تظل أمريكا "ملوثة" بالخطيئة الأصلية المتمثلة في العبودية وإقصاء الشعوب الأصلية؟ أم أن هذه الاتهامات تغفل إنجازات الآباء المؤسسين والعقبات التي واجهوها والتطور الذي أحرزته البلاد لاحقًا؟

تناول المؤرخ الأمريكي الحائز على جائزة "البوليتزر "، جوزيف ج. إليس، في كتابه الجديد بعنوان «التناقض العظيم» واحدة من أكثر القضايا حساسية في التاريخ الأمريكي الحديث؛ ألا وهي المفارقة الأخلاقية التي وسمت الثورة الأمريكية منذ بدايتها: كيف رفع قادة الاستقلال شعارات الحرية والمساواة في الوقت الذي استمر فيه كثير منهم في امتلاك العبيد والمشاركة في سياسات إقصاء السكان الأصليين؟

وقدم "إليس" في هذا العمل قراءة تحليلية نقدية لتاريخ الآباء المؤسسين، محاولًا الموازنة بين الاعتراف بإنجازاتهم السياسية الكبرى وبين تفكيك ما رافقها من تناقضات أخلاقية، متمثلة في فشلهم في إنهاء العبودية ومنع طرد الشعوب الأصلية من أراضيها.

في البداية، استهل الكاتب بالحديث عن اللوحة التي يعلقها على جدار مكتبه، والتي تحمل اقتباسًا من رسالة وجّهها المزارع روبرت بليزانتس إلى رئيس الولايات المتحدة آنذاك جورج واشنطن عام 1785، وكان "بليزانتس"، وهو مزارع تبغ من فرجينيا، ينتمي إلى طائفة الكويكرز المسيحية وصديقًا شخصيًا لعائلة الكاتب، قد بادر إلى تحرير عبيده فور سماح القانون بذلك، على عكس "واشنطن" الذي احتفظ بعبيده حتى وفاته.

وفي رسالته إلى القائد العام المتقاعد، ذكّر "بليزانتس" "واشنطن" بأن القضية التي تولّى من أجلها قيادة الجيش الأمريكي كانت "قضية الحرية وحقوق الإنسان"، مشيرًا إلى التناقض الذي يعيشه كثير من مناضلي الاستقلال الذين خاضوا الحرب دفاعًا عن الحرية ثم عادوا ليعيشوا بعدها في ترف وبذخ قائمين على عمل العبيد.

تلك المفارقة الأخلاقية هي جوهر السجال الذي احتدم في السنوات الأخيرة حول نشأة الولايات المتحدة، ومفاده هل كانت الأمة، منذ ميلادها، ملوّثة بالخطيئة الأصلية المتمثلة في العبودية (وبالطبع في إقصاء الشعوب الأصلية)؟ أم أن هذه الاتهامات — رغم استنادها إلى مبادئ الثورة نفسها في المساواة — تغفل إنجازات الآباء المؤسسين، والعقبات التي واجهوها، والتطور الذي أحرزته البلاد لاحقًا؟ بل هل كنا، لو وُضعنا مكانهم، سنفعل أفضل منهم؟

لقد زلزلت الثورة الأمريكية نظام العبودية بطرق لم يتوقعها القادة أنفسهم؛ فآلاف من المستعبدين فرّوا للقتال في صفوف البريطانيين، وهو ما وصفه "إليس" بأنه التجسيد الأصدق لمعنى القضية"؛ لأن سعي هؤلاء للحرية جسّد بالفعل تلك الحقائق التي طالما اعتُبرت بديهية.

وفي المقابل، رفض الوطنيون في مدينة تشارلستون تسليح العبيد مقابل حريتهم، حتى لو أدى ذلك إلى سقوط المدينة بيد البريطانيين عام 1780؛ وهو ما حدث بالفعل، إذ بدا حرمان الآخرين من الحرية أهم من نيلها لأنفسهم، وفي الشمال، دفعت حركة إبطالية ناشئة نحو حظر العبودية كليًا في عدد من الولايات.

ولم يكن "بليزانتس" وحده من لاحظ هذا التناقض الصارخ؛ فقد أدركه بعض الآباء المؤسسين أنفسهم؛ فعلى سبيل المثال، جورج واشنطن، الذي امتلك عبيدًا منذ أن كان في الحادية عشرة، حذّر من أن فرض البريطانيين للضرائب الجديدة سيجعل المستعمرين "عبيدًا خاضعين مثل العبيد الأفارقة الذين نحكمهم بسلطة تعسفية".

وبعد حرب الاستقلال الأمريكية - التي دارت بين المستعمرات الأمريكية وبريطانيا في القرن ال18 وهي الحرب التي انتهت باستقلال الولايات المتحدة - استشاط "واشنطن" غضبًا حين حملت السفن البريطانية عبيده الفارين من ماونت فيرنون، وقال المؤلف: "لم يكن غافلًا عن القضايا الأخلاقية الكبرى المطروحة، لكنه ظل متمسكًا بقناعة غريزية وعميقة بأن عبيده ملكٌ له".

وبينما حاول الآباء المؤسسون الموازنة بين المبادئ والمصالح، تورطوا في تناقضات عبثية، ذكر المؤلف منها ما حدث مع الأب المؤسس، جيمس ماديسون ، الذي برع في ما أسماه "الغموض المستنير"، الذي كان يبدأ حديثه بإدانة العبودية وينهيه بغلالة لغوية تُغرق الموضوع في ضبابٍ كثيف، ففي عام 1790 وصف العبودية بأنها "شر أخلاقي وسياسي"، لكنه رأى أنه "من غير الملائم" السعي إلى إلغائها آنذاك.

وعبر صفحات الكتاب، الصادر عن دار نشر نوبف ، وصف "إليس" الجدل الدائر اليوم حول الثورة بأنه صراع بين "أنصار أمريكا" و"خصومها"، معتبراً أن كلا الفريقين "يفكر بطريقة المحامين لا المؤرخين"، لكنه في كتابه نفسه بدا وكأنه يتقمص دور محامي الدفاع في محاكمة مصيرية؛ فهو يرى أن قادة الثورة كانوا أسرى لظروفهم أكثر منهم صانعيها؛ فلم يكن بإمكانهم إنهاء العبودية حتى لو أرادوا، لأن ذلك كان سيشقّ وحدة الاتحاد الهشة، كما ورد عبر صحيفة "النيويورك تايمز".

وحتى كثير ممن نادوا بالتحرر - على خلاف "بليزانتس" - أرادوا ترحيل السود الأحرار خارج البلاد، وهي مهمة ازدادت استحالة مع تضاعف أعداد المستعبدين، تلك المعضلة، إلى جانب التوسع السريع للعبودية، شلّت أي إمكانية للحل، وجمّدت آمال بعض المؤسسين بأن تتلاشى العبودية تدريجيًا إلى أن جاء الانفجار الكبير في الحرب الأهلية

وتحدث المؤلف في فصل كامل عن طرد السكان الأصليين من أراضيهم، وقلل خلاله من شأن تورط "واشنطن" العميق والمستمر في مشروع التوسع الاستيطاني، ولم يذكر، مثلًا، أمره الصريح عام 1779 بـ"تدمير وإبادة كاملة لقرى الإيروكوا."

وعوضًا عن ذلك، صور الكتاب "واشنطن" كالعاجز أمام "المدّ الأبيض الجارف" للمستوطنين نحو الغرب، وفي هذا الصدد، ركز المؤلف على لحظة وجيزة في أوائل تسعينيات القرن الثامن عشر؛ حين حاول "واشنطن" وبعض القادة اتباع نهج أكثر لينًا مع قبائل الكريك في ما يُعرف اليوم بجورجيا وألاباما ومسيسيبي، لأن نيران الثورة كانت لا تزال متّقدة فيهم، متجاهلًا إلى حد بعيد الحرب العنيفة التي كانت تشنها القوات الأمريكية آنذاك ضد اتحاد قبائل الشمال الغربي في أوهايو وإنديانا. وبدلًا من ذلك، فضل أن يختم المشهد بتصوير رومانسي لزعماء الكريك وهم يشبكون أذرعهم مع الرئيس وينشدون "أغنية عن السلام الأبدي."

وهكذا، يمكننا القول أن الكتاب قدم قراءة متعاطفة إلى حد ما مع جيل صنع الحرية وقيّدها في آنٍ واحد، وقد ترك القارئ أمام سؤال لا مفر منه: هل يمكن تبرير ظروف التاريخ حين تكون الضحية هي ممثلة العدالة ذاتها؟.

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة