برتراند راسل.. منارة المعرفة والتنوير والسلام العالمي

الجمعة 31 أكتوبر 2025 - 9:55 م

 

«العقل الحر هو المحرك الأساسى فى التقدم البشرى»

برتراند راسل

ولد برتراند راسل فى مقاطعة ويلز بالمملكة المتحدة عام 1872، وتوفى عام 1970 عن عمر يناهز 97 عامًا، نشأ راسل فى عائلة أرستقراطية، توفى والداه وهو صغير، وتولى تربيته جده وجدته. درس راسل الرياضيات والفلسفة فى جامعة كامبريدج، وحصل على جائزة نوبل فى الأدب عام 1950.

يركز هذا المقال على بعض أفكار راسل مع تجنب الخوض فى أعماله فى مجال الرياضيات وتفاصيلها المعقدة.

كان تأثير راسل فى مجال الفلسفة عميقًا ومتعدد الأبعاد. دافع عن الحرية الفردية وحقوق الإنسان والسلام العالمى، وكان أحد أبرز المعارضين للحرب العالمية الأولى، وسُجن بسبب موقفه المناهض لها. على النقيض تعاطف مع ضرورة الحرب العالمية الثانية للتخلص من هتلر ونظامه الفاشى اللا إنسانى.

كرس راسل، فى سنواته الأخيرة، جهوده للحملات المناهضة للأسلحة النووية وحرب فيتنام، وشارك فى صياغة «بيان راسل-أينشتاين» الذى يدعو إلى نزع السلاح النووى. كما أسس «محكمة راسل» للتحقيق فى جرائم الحرب. سُجن وعمره 89 عامًا بسبب مواقفه السياسية، ما جعله رمزًا بين المثقفين والشباب فى عصره. ولا يزال هذا الإعجاب مستمرًا بين المثقفين فى جميع أنحاء العالم حتى يومنا هذا.

• • •

تميز راسل بأسلوب واضح ومباشر فى كتاباته، ما جعله من أوائل الذين قدموا الفلسفة إلى الجمهور العام. نشر راسل عام (1945) كتابه الموسوعى «تاريخ الفلسفة الغربية»، الذى قدم فلاسفة الغرب من العصر الإغريقى إلى العصر الحديث بأسلوب من السهل فهمه من الجميع. يُعد هذا الكتاب أحد أهم الأعمال الفلسفية على مر العصور، وتم بيع منه مئات الآلاف من النسخ.

عرض راسل تاريخ الفلسفة اليونانية، بدءًا من طاليس الذى اعتقد أن الماء هو أصل الكون، وشرح صراع سقراط مع السفسطائيين، ودور أفلاطون فى نشر الفكر المثالى وتعاليم سقراط. يختتم راسل الفترة اليونانية بأرسطو الذى جمع بين الفلسفة والفيزياء. ينتقل راسل بعد ذلك إلى فلسفة العصور الوسطى، التى كانت فى خدمة المؤسسة الدينية. وسلط راسل الضوء على المساهمات الإيجابية للفلاسفة المسلمين فى الحفاظ على التراث الفلسفى.

بعد ذلك جاء عصر النهضة والتنوير، اهتم راسل بمبدأ الشك فى فلسفة ديكارت، الذى قال: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، والفيلسوف الاسكتلندى هيوم، الذى آمن بأن مكافحة الأفكار الخاطئة والخرافات يجب أن يكون من خلال التحليل العقلانى الدقيق؛ والفيلسوف الألمانى كانط، الذى أكد أن العقل هو مصدر المبادئ الأخلاقية والمعرفية. ثم ينتقل راسل إلى فلاسفة العصر الحديث، وأبرزهم هيجل وماركس ونيتشه، ورفض راسل أفكار نيتشه المتعلقة بتمجيد قوة الإنسان.

اُتهم راسل بالتحيز وتقييم أفكار الفلاسفة بناءً على مدى توافقها مع رؤيته الفلسفية الخاصة، وأنه ضحى بالدقة الأكاديمية لصالح الإثارةِ الأدبيَّةِ، وأنه تجاهل إسهامات الفلاسفة المسلمين، على الرغم من أنه خصص فصلًا للثقافة والفلسفة الإسلامية. كما اُنتقد تجاهل راسل لمساهمات نيتشه فى رفض الأخلاق التقليدية، واختزاله فى صورة «محرض مجنون» على الفاشية. انتقد -أيضًا- تبسيطه المفرط للفلسفة.

• • •

على النقيض، أشار أنصار راسل إلى أن الكتاب حرر الفلسفةَ من برجِها العاجيِّ وأعاد ربطِها بالأسئلةِ المصيريَّة، مثل العدالةِ، والحريةِ، وطبيعةِ المعرفة، وحوَّلَها من نشاط نخبوى إلى ممارسة جماهيريَّة تتجاوز أسوار الجامعات.

فى مجال الأخلاق، رسم راسل تصورًا فلسفيًا متكاملًا عن الإنسان كمخلوق أخلاقى وسياسى، موضحًا كيف يمكن تأسيس الأخلاق والسياسة على أسس عقلانية، وأن التعليم الجيد هو حجر الأساس فى بناء الأخلاق والمجتمع.

بالنسبه للسياسة، انتقد راسل الرأسمالية المتوحشة، والشيوعية السلطوية التى تقمع الفرد، وآمن بديمقراطية ليبرالية إنسانية تتسم بالعدالة الاجتماعية وتضمن الكرامة الاقتصادية.

على الرغم من أن راسل كان معجبًا بماركس باعتباره مؤسس الفهم الحديث للعمل وعلاقته برأس المال، فإنه انتقد النظام الشيوعى السلطوى، واعتبار الماركسية ديانة ذات ممارسات ومعتقدات لا تحتمل أى شك.

رفض راسل -أيضًا- الفاشية رفضًا قاطعًا، معبرًا عن كراهيته للتعصب والاضطهاد، ودعا إلى التسامح وأن نتقبل الاختلاف الفكرى لاستمرار الحياة البشرية والسلام على كوكب الأرض.

كان راسل يعتقد أن التعليم يجب أن يكون أداة لتحرير العقل وتنمية التفكير النقدى، وليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة عن طريق الحفظ والتلقين، لذا انتقد التعليم الذى يُكرّس الخوف والطاعة وشدد على دور المعلم فى أن يكون محفزًا للتفكير.

• • •

اهتم راسل بنشر الثقافة العلمية، ونشر كتاب بعنوان «أبجديات النسبية» لشرح نظرية النسبية لعامة الناس، بسط فيه المفاهيم المعقدة، مثل ترابط المكان والزمان، ونسبية الحركة، والعلاقة بين الكتلة والطاقة فى معادلة أينشتاين المشهورة.

طرح راسل أن الوعى متأصل فى المادة، ورفض ثنائية العقل والمادة، وانجذب إلى نظرية «الواحدية المحايدة» التى تفترض أن الطبيعة الأساسية للواقع ليست عقلية ولا مادية، بل هى مادة «محايدة» وأن العقل والمادة ليسا مختلفين جوهريًا، بل هما ترتيبات مختلفة لنفس «الجوهر» الأساسى، وإن الوعى ينشأ من هذه القاعدة المحايدة.

اهتم راسل أيضًا بالقيم الأخلاقية فى الزواج والممارسات الجنسية، حيث أوضح راسل أن الفضول الجنسى، مثله مثل أى نوع آخر من الفضول، يتلاشى عندما يتم إشباعه، وأن أفضل طريقة لمنع الشباب من الانشغال المفرط بالجنس هى إخبارهم بكل ما يريدون معرفته عنه. كما انتقد راسل المفاهيم التقليدية للأخلاق المتعلقة بالجنس والزواج. وقد شرح أفكاره فى كتاب «الزواج والأخلاق»، الذى أثار إدانات لاذعة وكلفه منصبه كأستاذ جامعى فى إحدى جامعات مدينة نيويورك. دافع الفيلسوف الأمريكى جون ديوى عن راسل وانتقد بشدة المعاملة القاسية التى تلقاها، واستُشهد بمقولة ألبرت أينشتاين لطالما واجهت العقول العظيمة معارضة عنيفة من العقول المتواضعة.

فى الختام، كان راسل مفكرًا موسوعيًا جمع بين الفلسفة والمنطق والرياضيات والنقد الاجتماعى والسياسى، فضلًا عن كونه مصلحًا تربويًا، وداعية سلام.

أشار راسل إلى أن معظم الناس يعيشون الحياة وهم يحملون عالمًا كاملًا من المعتقدات التى تفتقر إلى أى مبرر عقلانى، وأن آراء الناس مصممة فى الغالب لتجعلهم يشعرون بالراحة؛ أما الحقيقة، فهى بالنسبة لمعظم الناس اعتبار ثانوى.

آمن راسل بأن المجتمع الصالح لا يُبنى إلا بأفراد صالحين، ولذلك دعا إلى إعادة تأسيس الأخلاق والسياسة على أسس واقعية وعقلانية، وإن بداية الحكمة هى فهم العالم كما هو عليه، وليس كما نتمنى أن يكون.

ما زلنا فى أمس الحاجة إلى أفكار الفيلسوف العظيم برتراند راسل، الذى لم يدخر جهدًا فى الدفاع عن الحرية الفردية والسلام العالمى وأهمية استخدام العقل فى جميع المواقف، حتى وفاته عن عمر يناهز المئة عام تقريبًا.

 

أستاذ الأشعة التشخيصية السابق بجامعة شفيلد إنجلترا

 

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة