«مسيرة تحرر».. قراءة فى مذكرات الوزير محمد فايق
الأربعاء 29 أكتوبر 2025 - 7:45 م
صدرت مؤخرًا تحت عنوان «مسيرة تحرر» مذكرات السيد الوزير محمد فايق، وهو أحد الأسماء التى عندما تذكر فى القارة السمراء أو فى المحافل الدولية عندما يتعلق الأمر بإفريقيا يعتبر أحد أبرز الشخصيات التى تركت أثرها وبصمتها فى المساهمة فى تحرير بلدان القارة الإفريقية والعمل من أجل تعزيز استقلالها الوطنى وتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، وبالدرجة ذاتها عندما يذكر اسمه فى المنتديات الدولية والعربية والإفريقية المعنية بموضوعات حقوق الإنسان فإنه يكون أحد الأسماء التى يشار إليها بالبنان نتيجة لما قام به من جهود لإنهاض الوعى والاهتمام بقضايا حقوق الإنسان عربيًا وإفريقيًا ودوليًا، وذلك بالإضافة إلى الأدوار التاريخية المهمة التى لعبها عندما تولى مناصبًا رفيعة عدة فى قلب عملية صنع القرار على الصعيد الوطنى داخل مصر على مدى سنوات طويلة خلال الحقبة الناصرية حتى مايو 1971.
والواقع أن كل فصول المذكرات بلا استثناء تستحق العرض والنقاش هنا، لكونها جميعًا تتناول موضوعات مهمة ومحورية ويتسم أسلوب العرض من جانب الكاتب بالإمتاع، ويجذب اهتمام القارئ، بحيث لا يستطيع المرء ترك المذكرات قبل استكمال قراءتها بالكامل. إلا أننا سنقتصر هنا على تناول أجزاء مختارة من هذه المذكرات بما تسمح به المساحة المتاحة وفى ضوء ما نراه من اعتبارات تدفعنا إلى الاهتمام بموضوعات معينة شملتها المذكرات من وجهة نظر صاحبها ورؤيته وسرديته، وترك موضوعات غيرها، ربما لمناسبة أخرى قد تأتى فى المستقبل لتناولها.
وبداية يتعين الإقرار بسمات وخصائص تميز هذه المذكرات عن الكثير من المذكرات التى صدرت على مدى العقود الماضية من جانب ساسة عرب كثيرين. وأولى هذه السمات هى ما يلمسه القارئ من حرص كبير من المؤلف على التحدث عن الجميع بقدر كبير من الموضوعية، بمن فى ذلك الخصوم السياسيون داخل مصر وخصوم مصر الناصرية من مسئولى دول أخرى، بل وفى بعض الحالات يسعى المؤلف إلى شرح الأسباب التى ربما دفعت هؤلاء الخصوم لتبنى ما اتبعوه من مسالك. وثانى تلك السمات هو قدر الوفاء الذى يحمله المؤلف للعديد من الشخصيات التى رافقته فى محطات مختلفة من مسيرته السياسية على مدى حوالى سبعة عقود، وحرصه بوضوح على أن يذكر فضلهم، وتمتد هذه السمة أيضًا إلى حرصه على إبراز الدور الوطنى لشخصيات ضحت من أجل مصر ومن أجل إفريقيا، ويرى أنها لم تنل حقها بشكل كامل فى التأريخ حتى الآن، وثالث تلك السمات هى الإشارة إلى مراجع ومصادر خارجية ينسب إليها الكاتب بعض المعلومات الواردة فى المذكرات دون ادعاء أنها جاءت منه، وهى ظاهرة قليلة الحدوث، إن لم تكن نادرة، فى مذكرات الساسة العرب.
وإذا بدأنا بتناول الموضوعات الخاصة بمصر فى الأساس، كما رواها السيد الوزير محمد فايق فى مذكراته، نجد فى مقدمتها المساحة التى أفردها لتناول انطلاق حرب التحرير الوطنية ضد الاحتلال البريطانى عقب إلغاء النحاس باشا لمعاهدة 1936 المصرية البريطانية فى أكتوبر 1951، وإبرازه دور عدد من الضباط الأحرار فى قيادة المقاومة الشعبية ضد معسكرات الاحتلال البريطانى فى منطقة قناة السويس خلال تلك الحرب، بجانب دور صاحب المذكرات بالطبع، خاصة الراحلين كمال الدين رفعت ومحمود عبدالناصر وعبدالفتاح أبوالفضل وسعد عفرة ووجيه أباظة وسمير غانم وغيرهم، ثم عودته لإلقاء الضوء مجددًا على الدور المحورى الذى عاد للعبه هؤلاء، أيضًا فى منطقة قناة السويس، لكن هذه المرة لقيادة المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثى فى أكتوبر ونوفمبر 1956.
أما الموضوع الثانى على الصعيد الوطنى، وهو له أهمية خاصة بالطبع نظرًا لمركزية دور صاحب المذكرات فيه، فهو أحداث مايو 1971، التى أطلق عليها الرئيس المصرى الراحل أنور السادات تسمية «ثورة التصحيح»، وأطلق عليها خصومه من الناصريين واليساريين عدة تعبيرات منها «الانقلاب» و«الثورة المضادة» وغيرهما، بينما حاول بعض علماء السياسة والمؤرخين والباحثين تناولها بشكل موضوعى فاعتبروها «صراع سلطة» بين الرئيس الراحل وخصومه من كبار رموز المرحلة الناصرية، والذين كان منهم الوزير محمد فايق، وهو فى مذكراته ينكر صفة «صراع السلطة» أو «المؤامرة» عن واقعة الاستقالات التى تقدم بها عدد كبير من كبار المسئولين للرئيس الراحل السادات فى مايو من عام 1971، ويوضح أن تقديم الاستقالات كان بغرض الإعلان عن رفضهم تأجيله غير المبرر لاتخاذ قرار الحرب ضد إسرائيل لتحرير الأراضى التى احتلت فى حرب يونيو 1967، وأيضًا رفضًا لعدد من سياساته الأخرى مثل الاندفاع إلى وحدة أو اتحاد مع ليبيا وسوريا والسودان واتخاذ ذلك حجة لتأجيل حرب التحرير، وكذلك رفضًا لما أسماه المؤلف اتصالاته السرية مع الأمريكيين وتحضيره للانقلاب على التحالف المصرى السوفييتى الذى كان يوفر لمصر السلاح والدعم الاقتصادى فى ذلك الوقت.
وما بين التاريخين، يعرض لنا المؤلف فى عدد من الفصول تجربته كوزير للإعلام المصرى فى الفترة الناصرية وحتى مايو 1971، ويستعرض ما تم من إنجازات فى هذا المجال، سواء على صعيد الإذاعة والتليفزيون أو الهيئة العامة للاستعلامات أو وكالة أنباء الشرق الأوسط، أو غيرها من مؤسسات كانت تابعة لوزارة الإعلام فى تلك الحقبة، وأسمح لنفسى أن اذكر فى هذا السياق واقعة كنت حاضرًا فيها وشاهدًا عليها بشكل مباشر منذ أكثر من عشر سنوات، وكانت احتفالية فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان لى شرف الجلوس على مائدة واحدة مع السيد الوزير محمد فايق والإعلامية المصرية القديرة والمتميزة الراحلة الأستاذة ليلى رستم، وعلى مدى ساعات تلك الاحتفالية لم تكفِ الأستاذة ليلى رستم، رحمها الله، عن ذكر عشرات المآثر والإنجازات التى حققها الوزير محمد فايق خلال فترة توليه حقيبة الإعلام.
وإذا انتقلنا من الصعيد الوطنى إلى الصعيد الخارجى، نجد من أهم وأمتع أجزاء الكتاب فصولًا تحكى أسرارًا عن الدور المصرى فى تحقيق تحرر إفريقيا ثم تمكينها من أدوات الاستقلال بعد حصولها على حريتها من الاستعمار القديم واستراتيجية مصر الناصرية لتعزيز مناعة وقدرة بلدان إفريقيا المستقلة حديثًا على مقاومة أشكال الاستعمار الجديد والتصدى له، وكذلك دعم مصر للمحافظة على وحدة أراضى البلدان الإفريقية بالرغم من اعتبارات أخرى كانت لدى مصر أو ظروف أخرى مرت بها مصر فى تلك الأوقات. وأشير هنا إلى حالتين ذكرهما المؤلف فى مذكراته، وهما حالة حدوث ثورة فى زنجبار وإعلان وحدتها مع تنجانيقا لتكوين تنزانيا، وشرح الكاتب كيف أن هذا كان أمرًا صعبًا فى ضوء الوجود العربى، خاصة العمانى، فى زنجبار، لكن القيادة الناصرية اختارت الوقوف بجانب الثورة والوحدة مع الحصول على ضمانات لسلامة أصحاب الأصول العربية فى الإقليم، وبالرغم من غضب عمانى تجاه هذا الموقف استمر حتى بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، والأمر الثانى هو حرص الرئيس عبدالناصر على تلبية نداء استغاثة من نيجيريا لتوفير طيارين مصريين للقضاء على الحركة الانفصالية فى بيافرا، وبالرغم من أن التوقيت كان حرجًا لمصر فى أعقاب هزيمة 1967، فقد لبت مصر النداء ولم تتأخر. لكن القصة الممتعة فى هذا السياق فى مذكرات الوزير محمد فايق هى روايته بالتفصيل لكيف حالت الأقدار دون إتمام لقاء بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والزعيم الجنوب إفريقى نيلسون مانديلا قبل اعتقال مانديلا ونفيه فى جنوب إفريقيا فى مطلع ستينيات القرن العشرين.
أما ما تداخلت فيه اعتبارات الداخل والخارج، سواء على الصعيد العربى أو الإفريقى أو الدولى، فكانت مسيرة الوزير محمد فايق مع قضايا حقوق الإنسان، خاصة بعد خروجه من السجن بعد عشر سنوات قضاها فى سجون الرئيس الراحل السادات لتهم أوضح فى مذكراته أنه لم يرتكبها فى مايو 1971، ونتيجة رفضه تقديم اعتذار عن جريمة لم تنشأ أصلًا حتى يطلق سراحه قبل ذلك. وقد تنوع عطاؤه فى مجالات حقوق الإنسان ما بين قيادته للمنظمة العربية لحقوق الإنسان منذ مرحلتها التأسيسية ولسنوات طويلة ونضاله لإقامة فروع لها فى الدول العربية وللحصول على وضعية قانونية للمنظمة وفروعها ولإقناع القادة العرب أن توفير حقوق الإنسان للمواطن العربى هو فى صالح الحكام والمحكومين معًا، ثم توليه عددًا من المناصب الدولية والإفريقية الرفيعة المستوى فى مجال حقوق الإنسان، ووصولًا إلى توليه منصب نائب الرئيس ثم الرئيس لسنوات عديدة للمجلس القومى لحقوق الإنسان فى مصر. ويحرص المؤلف فى مذكراته على إظهار حرصه على عدم المجاملة أو الخضوع لأى ضغوط خلال توليه موضوعات تندرج تحت ملف حقوق الإنسان، سواء على الصعيد المصرى أو العربى أو الإفريقى أو العالمى.
ولا شك أن مذكرات السيد الوزير محمد فايق تمثل رصيدًا لا ينضب يجب أن ينهل منه القارئ المصرى والعربى، بل أتمنى أن تتم ترجمة هذه المذكرات إلى لغات أجنبية حتى يطلع عليها ويستفيد منها قراء من إفريقيا ومن العالم بأسره، حيث إنها مليئة بدروس مستفادة من تجارب الماضى البعيد والقريب نحتاج إلى استيعابها لصياغة أفضل السبل للتعامل مع معطيات وتحديات الحاضر والمستقبل مصريًا وعربيًا وإفريقيًا وإنسانيًا.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا