x قد يعجبك أيضا

‎ما قاله شكسبير قبل نصف ألفية.. إنما الدنيا مسرح كبير!

الخميس 23 أكتوبر 2025 - 8:10 م

ربما تكون الصفحات التى يوردها كارل ماركس فى الجزء الأول من كتابه الاقتصادى الكبير «رأس المال»، أشهر ما فى هذا الكتاب الذى تزداد أهميته يومًا بعد يوم كمبحث لا بد منا اعتماده فى تحليل المنظومة الرأسمالية على حساب القيمة الأيديولوجية التى ألصقت به طوال قرن ونصف القرن مضت على ظهوره. ونشير هنا تحديدا إلى تلك الصفحات التى تضم نص ماركس حول «دور الشر والمجرم فى صناعة التاريخ»، هذا النص الذى ربما يكن فى سياق ذلك الكتاب، أشهر الصفحات العلمية التى كتبت فى اللغة الإنجليزية.
‎غير أن الأمر لا يخلو من منافسة لتلك الصفحات تتمثل فى عبارة أكثر اختصارا هى هذه المرة لشكسبير الذى يتوقف بطل واحدة من أهم مسرحياته، «ريتشارد الثالث» ليصرخ ذات لحظة قائلا: «إنما الدنيا لمسرح كبير!». ولئن كان نص ماركس ينخرط فى تحليل اقتصادى علمى حاذق ولا يتوخى أن يكون حكمة مأثورة، فإن عبارة شكسبير، أتت من منطلق عاطفى غضوب، وربما على سبيل التورية أيضا، بل قبل كل شىء على سبيل التورية.
‎لكن الدنيا لم تكن فى الواقع زمن شكسبير وربما لعقدين ونيف من السنين، ذلك المسرح الكبير الذى قد يشكو منه بطل المسرحية. وفى المقابل يمكننا أن نلاحظ اليوم كيف أن قول شكسبير قد تحول مع الوقت إلى نبوءة ومن العيار الثقيل. نبوءة يزداد حضورها لتغمر اليوم كل شىء فى حياتنا وفى حياة مئات الملايين من البشر. صحيح هنا أن ليس فى وسعنا أن نرصد أية قائمة للبرهنة على ما نقول فالأمثلة يومية وبأعداد لا تنتهى. ولكن نظرة عبر شاشة التلفزة، وأكثر من ذلك نظرة إلى شاشات الهواتف الصغيرة وهى تبث ثانية بثانية ما يحدث وما يقال والتعليقات اللامتناهية على ما يحدث، ثم خاصة على ما لا يحدث، وعلى ما يقال، تضعنا وبشكل متواصل أمام حضور مسرحى قد يمكننا أن نقول إن له اليوم أبطاله ونجومه وعباراته وتقاليده، ولا سيما جمهوره العريض الذى بكبسة زر يمكنه أن يصبح مشاركا فى تعليقات لعل أهمها وآخر ما تتميز به هو لجوؤها إلى أقصى درجات السفاهة وقلة الأدب وقد أفلتت ليس فقط من كل حسيب ورقيب، وليس فقط انطلاقا من حرية تعبير سائدة، بل كذلك بالترابط مع عجز تقنى عن السيطرة على الأمور مهما حاول أصحاب المحركات ذلك ووعدوا به. لعل الاستنتاج الطريف المرير الذى عبر عنه واحد من أصحابنا المفكرين تعليقا على ذلك كله يدفعنا إلى التفكير إذ قال: لست أعتقد أننا اليوم فى حاجة حقا إلى شكسبير ولا إلى غلاة المهرجين ولا إلى التجوال فى الأماكن التى يرتادها الحثالة، للتفرس فيما بات يشكل مسرحا كبيرا ينتشر فى طول العالم وعرضه، ولا إلى التعرف على أشد ابتكارات السفهاء فى مضمار الشتائم وما شابه ذلك.
‎السفهاء؟ بل حتى كبار القوم من المندوب الأمريكى إلى سوريا ولبنان الذى لم يتورع عن مجابهة الصحفيين بما اعتبر شتيمة مربكة، إلى رئيسه سيد البيت الأبيض الذى لا يرحم أحدا من لسانه البذىء، وتعليقاته التى لا يدلى بها عادة إلا بعدما يتأكد من أن الكاميرات تلتقط صورته، ولا يرحم سيدة من غزله المتصابى. هذا إن لم نتحدث عن الناطقين باسمه من الذين أقل ما يجيبون به على أسئلة الصحفيين ومهما كانت جديتها لهم، كلام بذىء يطال أمهات هؤلاء أحيانا. وكيف لا يفعلون ذلك وهم يرون رئيسهم والطريقة التى تحدث بها يوما إلى رئيس أوكرانيا المفروض أنه حليفه وضيفه مهددا ساخرا متوعدا، فى قدس أقداس الرئاسة الأمريكية، المكتب البيضاوى؟
‎والحال أننا لا نحصر كلامنا بهذه الأمثلة هنا إلا لأنها تشير إلى حالات نموذجية تتعلق بما آلت إليه أحوال الخطاب السياسى فى عالم اليوم. وتحديدا عبر لغة يصعب تقبلها والنظر إليها على أنها تنطق باسم سياسات تقف على قمة العالم وتسير أحوال الإنسانية بأسرها. ويقينا أن ما سقناه حول البيت الأبيض، يبقى أقل سفاهة مما نشاهده على شاشات التلفزة ويوميا، بديلا للحياة نفسها. ونقول هذا ونفكر بالسرقة المصورة والغامضة مع ذلك التى أودت بسمعة متحف اللوفر ووطنه الفرنسى بقدر ما أودى به فى الوقت نفسه، مشهد الرئيس السابق ساركوزى وهو يساق إلى السجن. السجن الذى ستخرج منه السلطات اللبنانية ابن الزعيم الليبى السابق بعد أن أبقته فيه وأمام أنظار العالم وأسماعه عقدا من السنين ظلما وعدوانا.
‎كل هذا على شاشة العالم العريضة وفى هذه الدنيا التى باتت مسرحا كبيرا. فهل يمكننا أن نقول «مسرحا سخيفا سفيها؟». وهل يمكننا أن نتساءل: إذا كان كبار القوم، وسلطات العدالة يلعبون اليوم كل تلك الألعاب على تلك الخشبة التى باتت عريضة عرض الكون، وصغيرة صغر شاشات الهواتف النقالة، هل من حقنا أن نوجه اللوم إلى كل أولئك من صغار العقول الذين يحذون الحذو مستخدمين تلك التقنيات البسيطة، والتى لا تقل عنهم سفاهة، للتعبير عن موقف أقل ما يقال عنه إنه يتنافى وبخاصة مع القيم الدينية التى ليس سرا أن معظم الذين يبدون الأكثر تمسكا، بها وتعبيرا عنها، هم أنفسهم الذين يعبرون وغالبا مستندون إليها، عن أدنى درجات الانحطاط فى معاركهم الدونكيشوتية ضد خصومهم سواء أكانوا أكثر منهم سفاهة، أو من أصحاب فكر سليم.
‎ما أخطأوا فى اختيارهم ساحة المنازلة أو أسلحتها. ففى الحالتين النتيجة واحدة ولا سيما فى مناطقنا حيث تتجلى الأمور أكثر ما تتجلى، فى انحطاط فكرى وانفلات للقيم الأخلاقية لا يوجد ما يماثله وعلى الأقل من تعميميته، فى سوابق التاريخ؛ أو لعله كان دائما موجودا لكنه كان مختبئا فى زوايا التفكير والأحاديث الحميمة حتى وصلنا إلى هذا الانفلات التقنى الذى لا بد أن كثيرا يتساءلون اليوم عما إذا كان العالم محكوما حقا بالتعامل معه كما هو؟

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة