تراجع يهودية يهود أمريكا

الخميس 11 ديسمبر 2025 - 7:05 م

يؤدى تراجع الهوية اليهودية بين اليهود الأمريكيين إلى ضعف الروابط العاطفية والأيديولوجية لهم مع إسرائيل، مما يهدد مثلث القوة التقليدى الذى جمع، على مدى عقود، بين مجتمع يهودى شديد القوة داخل أمريكا، ودعم أمريكى شديد القوة لإسرائيل، ودولة إسرائيل تستفيد بشدة من نفوذ اليهود الأمريكيين.
ويخشى كثيرون أن يضعف هذا الاتجاه الدعمَ الرسمى الأمريكى لإسرائيل. ويلخص هؤلاء المفكرون مخاوفهم بالقول إن أمريكا تشهد حاليًا «حقيقة مزدوجة مزعجة»، إذ يتقاطع تآكل الهوية الدينية بين اليهود أنفسهم من جهة، مع تزايد العداء المجتمعى والسياسى لهم من جهة أخرى، فضلًا عن الانقسام الكبير بين يهود أمريكا. ويعرف المجتمع اليهودى الأمريكى حالة عميقة من الانقسام السياسى والثقافى، تظهر فى الفخر بقوة إسرائيل المادية والتكنولوجية من جهة، ومن جهة أخرى الشعور بالعار والقلق من ممارساتها اللاأخلاقية والإجرامية.
• • •
ويُعد تراجع اليهودية كديانة وهوية ورابطة بين الكثير من اليهود الأمريكيين انعكاسًا واضحًا لتحولات ثقافية واجتماعية وسكانية أوسع تشهدها أمريكا. وتُجسد عدة ممارسات وظواهر هذا التراجع، ويأتى انخفاض المشاركة الدينية، سواء فى حضور اليهود الصلوات أسبوعيًا مقارنة بما كان عليه الأمر قبل عقد من الزمان، على رأس هذه الظواهر. ومع ميل الكثير من اليهود الأمريكيين إلى تبنى العلمانية، وإعلان الكثير منهم الإلحاد بنسب أكبر من نظرائهم فى الديانات الأخرى. كما دفع تزايد الزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود إلى عدم الانتماء للأفكار والمعتقدات اليهودية بصورة عامة، وبصورة خاصة بين أطفال هذه الزيجات، مما يؤدى إلى تراجع الالتزام الدينى لليهود بصفة عامة.
يعيش 40% من الأطفال اليهود الأمريكيين حاليًا فى بيت يضم أبًا أو أمًا من غير اليهود. ويثير الزواج المختلط مخاوف الكثير من المفكرين اليهود، خاصة مع ما أظهرته دراسة لمعهد بيو عام 2020 من أن أكثر من 42% من الزيجات اليهودية غير الأرثوذكسية تتم مع شركاء من ديانات أخرى، وأن نحو نصف الأطفال فقط فى الأسر اليهودية يُربون وفق الثقافة الدينية اليهودية. ويرتبط بما سبق كذلك تراجع الاهتمام بالتعليم الدينى اليهودى داخل العائلات اليهودية ذاتها، والابتعاد عن التعاليم الدينية الصارمة. ولا ينطبق ذلك على اليهود الأرثوذكس، أو اليهود المتشددين، والذين لا تزيد نسبتهم على 15% بين يهود أمريكا البالغ عددهم ما يقرب من 7.5 ملايين شخص.
• • •
يرى مفكرون يهود تحركهم نزعة قومية صهيونية أن هناك تراجعًا كبيرًا فى يهودية اليهود الأمريكيين، وأن لذلك تبعات شديدة الخطورة. ويخشى هؤلاء أن يؤدى ذلك إلى تراجع الالتزام الصهيونى ودعم إسرائيل فى صفوف اليهود الأمريكيين، بسبب الاهتمام الناشئ بالقضية الفلسطينية، خصوصًا بين أجيال الشباب الأمريكى بمن فيهم اليهود، وظهور نزعة نقدية لدى جيل جديد من اليهود تجاه إسرائيل وممارساتها، وتراجع فكرة دعم إسرائيل فى صفوف التيار القديم داخل الحزب الديمقراطى، الذى بدأ يتجاوزه جيل جديد من اليسار، وانحصارها فى صفوف الجمهوريين التقليديين، الذين بدأ يتجاوزهم هو الآخر اليمين الجديد، لاسيما الداعم للرئيس دونالد ترامب وأجندة «أمريكا أولًا».
يخشى قادة يهود أمريكا من تلاشى الارتباط بإسرائيل بين الأجيال الشابة اليهودية، وهى ظاهرة قد تكون لها تبعات بالغة الخطورة فى السنوات المقبلة. وتُشير أحداث كثيرة إلى أن اليهود الأمريكيين الشباب أقل تفاعلًا مع إسرائيل مقارنة بالأجيال السابقة، مثل تصويت ما يقرب من 40% من يهود مدينة نيويورك، الذين يقترب عددهم من مليون شخص، لعمدة المدينة المنتخب زهران ممدانى، على الرغم من تبنيه خطابًا شديد العداء للسياسات الإسرائيلية، واعتباره ما يجرى بقطاع غزة بمثابة إبادة جماعية وحرب دائمة، مع تعهده بالقبض على بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى لو سافر لنيويورك امتثالًا لقرار محكمة العدل الدولية.
• • •
تتغير العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بشكل ملحوظ منذ السابع من أكتوبر 2023. ورغم أن إدارتَى جو بايدن والجمهورى دونالد ترامب لم تختلفا كثيرًا فى دعم إسرائيل أثناء حربها على غزة، وما ترتب على ذلك من دمار هائل فى القطاع مع سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، فإن العلاقات بين واشنطن وتل أبيب تتحول ببطء فى مسار مقلق لإسرائيل.
لقد تراجعت نسبة التعاطف الشعبى الأمريكى مع إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، وفشل اللوبى الصهيونى فى وقف صعود شخصيات مثل زهران ممدانى، رغم مواقفه المناهضة لسياسات تل أبيب. ولم يعد هذا اللوبى بالقوة نفسها التى تمتع بها فى العقود السابقة، وهو ما أشار إليه ترامب حين قال فى سبتمبر الماضى: «كان لدى إسرائيل أقوى لوبى فى الكونجرس، أقوى من أى شىء رأيته فى حياتى، أما اليوم، فلم يعد لديها لوبى قوى». ورغم أن تحذير ترامب جاء فى إطار عام، فإن خسارة إسرائيل تتعمق بين أوساط الشباب، ولهذا السبب حذّر بعض المعلقين النافذين، ومنهم توماس فريدمان وفريد زكريا، من أن إسرائيل خسرت بالفعل جيل الشباب الأمريكى الحالى.
كما توضح استطلاعات الرأى العام أن التغيير فى الأجيال قادم بصورة ستعيد تشكيل سياسة واشنطن تجاه إسرائيل، إذ يُظهر الشباب من كلا الحزبين الديمقراطى والجمهورى تشككًا فى أخلاقية تقديم دعم أمريكى غير مشروط لإسرائيل وجدواه أساسًا من منظور المصالح الأمريكية. ومن هنا يرى مفكرون يهود أن اليهود الأمريكيين باتوا يواجهون انتقادات غير مسبوقة، سواء من اليمين الجمهورى كما هى الحال مع صعود نجومية تاكر كارلسون، أو من اليسار الديمقراطى كما هى الحال مع ظاهرة زهران ممدانى، وأن العصر الذهبى ليهود أمريكا بدأ فى الأفول.
• • •
فى النهاية، لا يجب أن تدفعنا هذه الاتجاهات إلى الاحتفاء بوهم اختفاء اليهودية الأمريكية وتأثيراتها، لكنها تعكس إعادة تشكيل كبيرة جارية داخل يهود أمريكا بما قد يخدم المصالح العربية والفلسطينية إن أُحسن استغلالها وفُهم تبعاتها.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة