x قد يعجبك أيضا

ضد الموت والميكروفون

السبت 20 ديسمبر 2025 - 7:05 م

تبدو شخصيات هذه الرواية البديعة مغتربةً فى وطنها، بما يذكّرنا بمقولة أبى حيان التوحيدى إن الغربة فى الوطن أقسى وأمرّ مما هى خارجه، ولذلك لن يجد بطل الرواية حلا سوى الخروج من مقبرته الحقيقية، ومن مقبرة أخرى تمثّل، مجازًا، الوطن كله.


الرواية، التى صدرت طبعتها المصرية عن دار الشروق، والدار العربية للعلوم، عنوانها «ميكروفون كاتم صوت»، ويحكى مؤلفها محمد طرزى، عبر شخصياتٍ مهمَّشة فى معظمها، عن محنة بلده لبنان فى سنواتٍ فاصلة؛ من ثورةٍ على الفساد إلى مأزق اقتصادى، وأزمة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، وعلى قاعدة مشكلات أقدم، أخطرها «الطائفية»، وسيطرة زعماء السياسة، وأباطرة البيزنس والفساد.


ليست هذه الهموم بجديدة، ولكن الجديد حقًّا هو هذا المعادل الفنى الذكى الذى اختاره طرزى، مازجًا بين الواقع والمجاز، والمأساة والسخرية، والسياسى والاجتماعى والاقتصادى والعاطفى، وبنبرة جسورة حقًّا، ومعالجة طموحة تترك فى الذاكرة عددًا كبيرًا من شخصياتٍ لا تُنسى، أجاد رسمها ومنحها بطولة على الورق، عوضًا عن بؤس الواقع.


حصدت الرواية جوائز مهمة، مثل جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجائزة كاتارا القطرية، وأعتقد أن نجاحها الفنى منحها هذا الاستحقاق بجدارة.


أولى علامات هذا النجاح التفات طرزى إلى أمرين فى الواقع يصنعان مجازًا رائعًا، وفى موضعه تمامًا، ويحقق الأمران تماسك النص، رغم كثرة شخصياته، وامتداده الزمنى، وتشعّب أحداثه وتحولاته.


الأمر الأول هو المقبرة التى يسكن بطلنا سلطان بجوارها، ويمضى معظم وقته داخلها. سلطان درس التجارة، لكنه لم يجد واسطةً لكى يعمل، ولم يعد له من خيار سوى السفر مثل كل الهاربين. والمقبرة ستكون مرآة لأزمات الوطن وطبقاته ومآسيه، التى ستضاعف عدد الموتى بعد كورونا وانفجار المرفأ، والمقبرة يفصلها عن البحر/العالم سياجٌ يترجم حصار بطلنا وأزمته، ثم تصبح المقبرة مجازًا للمدينة المأزومة، وللوطن المنكوب بأكمله.


الأمر الثانى هو الميكروفون الذى يرافقنا على مدى صفحات الرواية بتنويعتين بديعتين حقًّا؛ إذ يعمل والد سلطان ناعيًا للموتى، لديه سيارة سوداء وأربعة ميكروفونات، يردِّد من خلالها أسماء المتوفين ومكان العزاء. والتنويعة الثانية هى ميكروفونات الأحزاب، وخصوصًا حزب الزعيم الشيعى الكبير.


وبينما تذكّرنا ميكروفونات النعى بالموت اليومى فى المدينة، فإن ميكروفونات السياسة تمارس الكذب والتضليل والتخويف، ومن هنا جاء اسم الرواية؛ فالميكروفونات كاتمة للصوت، بمعنى أنه كلما ارتفع صوت الزعيم والأحزاب، صمت الناس خوفًا ونفاقًا.


عبر هذين القوسين والمجازين الخارجين من الواقع، لا يمتلك سلطان، الذى يبدو كما لو كان عنوانًا لجيلٍ وطائفةٍ وطبقة، سوى بعض الأصدقاء الذين يترجمون الأزمة وتحولاتها، مثل قاسم وحسن ولوركا، ثم ريتا صاحبة منزل اللذة والفرح، ولا يمتلك أيضًا سوى حكاية حب بلا أفق مع وداد، ابنة الطبقة الأعلى.


بين رحلة قاسم، صديق سلطان، المأساوية للهروب والهجرة، وتذبذب علاقة وداد مع سلطان، واضطرار الأخير إلى أن يحل محل والده فى وظيفة «ناعى الموت»، يدور الصراع ظاهرًا وباطنًا، وتدخل على الخط ثورة أكتوبر 2019 ضد الزعامات السياسية والفساد، وهى ثورة انتهت بالفشل.


تأتى أخيرًا لحظة استنارة، وبوادر تمرّد ورفض، بعد فشل الحب، وانفجار المرفأ، فيثور ميكروفون ناعى الموت على ميكروفون الزعيم، ويتشجع القاضى فيتمرد على مافيا السياسة، وتصرخ غيداء بعد مقتل شقيقها، حتى ريتا تتحدى المختار الذى يستغلها، ثم يجد سلطان، نيابةً عن جيله، مكافأة الإنقاذ فى آخر لحظة، بالخروج أخيرًا من المقبرة، وبترك كل الميكروفونات الخاوية، بعد أن استرد صوته الخاص، وبعد أن هزم مخاوفه وجبنه وصمته الطويل.


لا يكتفى طرزى بذلك التعشيق الفذّ بين الواقع والمجاز، لكنه يبنى النص دراميّا، بمعنى أنه يملأ حكايته بالمفاجآت والأسرار التى يتوالى كشفها حتى السطور الأخيرة.


بدا لى أنه يتعامل مع تناقضات وطنه مثل فيلم سينمائى لا تنتهى عجائبه، وسلطان نفسه حمل هذا الاسم الغريب لأن والده، الذى كان يعمل فى إحدى دور العرض، شاهد فيلم «سلطان» لفريد شوقى!


حالة الاغتراب والتهميش التى عاشتها الشخصيات جعلت الأسماء بلا معنى، وجعلت المقبرة تزحف على المدينة، بل وجعلت سلطان لا وجود له فى الدفاتر الرسمية، لأنه يحمل اسم أخيه الذى مات صغيرًا. ازدواجية الأسماء تعكس التحولات، وتشمل طائفة كبيرة من الشخصيات؛ سلطان استعار اسم أخيه، وينادونه أحيانًا بلقب العائلة «حفّو»، ولوركا تحوّل من عازف أكورديون إلى مقاتل فى الحزب، فأصبح اسمه ساجد، و«مُهانة» شقيقة سلطان أصبح اسمها لولو، و«عفاف» أصبحت ريتا سيدة اللذة والسعادة!


تتم إعادة قراءة فوضى الواقع عبر حكاية سلطان المحورية، وعبر حكايات الشخصيات الفرعية، وتنقل رسائل الخارج رحلة العذاب والتشرّد لأسرة قاسم، فتعيدنا من حلم السفر إلى منطقة الكوابيس.


وفى حين يفشل سلطان فى كتابة رواية عن «فخر الدين»، البطل التاريخى الذى هُزم مشروعه فى صناعة لبنان واحد مستقل، فإن الواقع المفكك يجعل سلطان نفسه بطلًا فى حكاية محدودة، يحاول فيها إنقاذ نفسه، والنجاة بها، وأن يصرخ أخيرًا فى الميكروفون، ويمنح والده فرصةً لكى يخرج من أسر سيارة الموت السوداء.


وداد، على الطرف المقابل، تجاوزت طبقتها شكليّا، ووجدت صديقًا ورفيقًا، واشتركت فى ثورة أكتوبر، وهتفت ضد الزعماء والفساد، لكنها عادت إلى الطبقة والحياة الآمنة، وعندما كانت تستعد للسفر حطّمها الفساد، ودمّرتها انفجارات المرفأ، حيث لا مكان يمكن الاستقرار فيه سوى المقبرة.


ربما تكون ريتا وبناتها، وحسن أسود، هم الأكثر صدقًا وشجاعة؛ لديهم حكايات فشلٍ وألم، تجاوزوا حقّا سنّ الشباب، لكنهم يلتقون فى لحظات سعادة قصيرة، ويمتلكون حكمةً عميقة، قادمة مباشرة من خبرة الحياة، ومن معرفة طويلة بالطبيعة الإنسانية، ومن رماد حكايات الحب الفاشلة.


«ميكروفون كاتم صوت» رواية تواجه الموت بالثورة، واليأس بالسعى والخروج، وميكروفونات الكذب والقهر بأصوات الذين صمتوا طويلًا، وحلموا بزرقة البحر، ورحمة السماء.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة