تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية المرئية، والمقروءة فى الآونة الأخيرة صورة لطابور طويل جدًا من الإسرائيليين امتد لمسافة بعيدة أمام سفارة البرتغال من أجل التقدم بطلب للحصول على جواز سفر برتغالى، ومن ثم على الجنسية البرتغالية. كانت الصورة مثار حديث كل وسائل الإعلام فى إسرائيل؛ وأدلى خبراء ومفكرون بدلوهم فى مغزاها ودلالاتها، وانعكاساتها على مستقبل دولة إسرائيل؛ وقد سمعت أحدهم، بأم أذنى، وهو يجيب على سؤال بشأن سبب هذا التكالب غير المسبوق، فى هذا التوقيت، على جواز السفر البرتغالى، قائلا، بالحرف الواحد: «هذه الدولة ــ يقصد إسرائيل ــ دولة بلا أفق».
بعيدًا عن التهويل والمبالغة، وبموضوعية خالصة، فإن «الأفق» المقصود هنا ليس ما قد يقفز ويتبادر إلى الذهن من أن دولة إسرائيل ستختفى وتتلاشى من الوجود؛ أو من أن السابع من أكتوبر 2023م، أو «طوفان الأقصى»، هو السبب المباشر وراء هذه الظاهرة. هو سبب هامشى من بين أسباب عديدة مهمة، تتعلق ببنية المجتمع الإسرائيلى، نفسه، وبمشاكله الداخلية، وما أكثرها. لقد خاضت إسرائيل حروبًا عديدة منذ إقامتها، لكنها ظلت قائمة. إذ ما تزال الدول الراعية لإقامتها، والسبب الرئيس فى استمرار بقائها ووجودها، تمدها بأسباب البقاء، وتغذيها، وتنميها.
استحوذت صورة الطابور، المهول، على النقاش العام فى إسرائيل، وغطت على أحداث ساخنة عديدة، مثل الخلافات اليومية بين رئيس الأركان، إيال زامير، ووزير الحرب، يسرائيل كاتس، وعلى الخلاف الدائر بين بنيامين نتنياهو والمعارضة الإسرائيلية بشأن تشكيل لجنة تحقيق فى أحداث السابع من أكتوبر 2023م، وهل تكون حكومية، أو لجنة فحص كما يريد نتنياهو، أم رسمية كما تطالب المعارضة ومعها جمهرة من الإسرائيليين، وعلى انقسام المجتمع الإسرائيلى حول مسألة إصدار عفو رئاسى عن نتنياهو، وعلى قانون تجنيد الحريديين بالجيش، الذى دخل المراحل الأخيرة من إقراره بشكل نهائى، وهو الذى تسميه المعارضة، قانون التهرب من الخدمة العسكرية.
يحكى الصحفى الإسرائيلى، نير كيبنيس، الذى يحمل هو وأولاده بالمناسبة جوازات سفر برتغالية، ويتمتعون بالجنسية البرتغالية، تجربته فى الحصول على جواز السفر وتجديده، وكيف أنها تختلف، هذه المرة، عن المرات الأربع السابقة، من حيث عدد المتقدمين للحصول على جواز السفر، ومن حيث نوعيتهم، ومن حيث الدوافع، التى جعلتهم يتكالبون على استخراج جواز سفر برتغالى قائلًا: «أربع مرات كنت فى فروع برتغالية مختلفة لما يماثل لدينا دائرة إحصاء السكان. مرة لكى أستخرج جواز سفرى، قبل ست أو سبع سنوات، ومرة قبل خمس سنوات، حين أصدرت جوازات سفر لأولادى الثلاثة، ومرة لكى أجدد جواز سفرى الذى انتهت صلاحيته فى ذلك الوقت، ومرة رابعة فى بداية هذا الأسبوع. فى المرة الأولى كان هناك قليلٌ جدا من الإسرائيليين الذين استغلوا القانون الذى يتيح ليهود سفاراد (سفاراد، هو اسم إسبانيا بالعبرية، لكن مصطلح «يهود سفاراد» يطلق، أكاديميًا، على الجماعة اليهودية التى عاشت فى جنوب غرب أوروبا بشبه جزيرة إيبيريا ــ إسبانيا والبرتغال معًا ــ منذ العصر الرومانى، مرورًا بالعصر الإسلامى، وحتى العصر الملكى. وهم يسمون «سفاراديين»، تمييزا لهم عن يهود الشرق، الذين يسمون «شرقيين»، وإن كان الحاخام، عوفديا يوسف، وهو مرجعية فقهية كبيرة، يرى أن يهود الشرق ينتمون، ثقافيًا، إلى يهود سفاراد، ويسفِّه التفريق بينهما فى المسمى) تسجيل أنفسهم بوصفهم مواطنين برتغاليين. لذا عندما وقفت على الرصيف لكى آخذ دورًا كان حولى مهاجرون فى الأساس، ليس من بينهم إسرائيلى واحد. فى المرتين الثانية والثالثة، سمعت أناسًا فى الطابور يتحدثون العبرية، لكنهم قليلون. أما هذه المرة، الرابعة، فكانت مختلفة اختلافًا كليًا، فقد عج المقهى القريب من مكتب التسجيل بأناس يثرثرون بالعبرية، وامتلأ الطابور بإسرائيليين فقط، برفقة سماسرة».
يبدى كيبنيس استغرابًا من تزايد الطلب لدى الإسرائيليين على استخراج جوازات سفر أجنبية فى الآونة الأخيرة، رغم الوضع الاقتصادى الجيد نسبيًا فى إسرائيل، بحسب قوله، ورغم تنامى الشعور بالاستياء فى مختلف أنحاء العالم تجاه إسرائيل بسبب ممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين، ورغم مؤشر السعادة العالمى الذى يصنفها فى مرتبة عليا، لكنه يشير إلى أن هناك «جيلًا إسرائيليًا يائسًا لديه استعداد للبحث عن مستقبله خارج الدولة التى نشأ فيها»، رغم تنشئته تنشئة صهيونية صارمة، تتمثل فى «تلقينه طقوس ذكرى المحرقة (النازية) وطقوس اليوم التذكارى لقتلى الحروب الإسرائيلية، وفى اصطحابه فى رحلات إلى محارق أوشفيتس، ورغم خدمته فى الجيش»، ورغم التلقين الأيديولوجى المستمر عمَّا يُسمَّى «أرض إسرائيل»، وعن الوجود التاريخى المزعوم فى هذه الأرض منذ آلاف السنين.
• • •
وهو يلاحظ، أن نوعية الإسرائيليين، الذين يتكالبون على جواز السفر الأجنبى، ويبحثون عن إمكانية الحياة فى مكان آخر غير إسرائيل، هم من طائفة الشباب، والمتعلمين، وأبناء الطبقة الوسطى، والوسطى العليا، ومن العُزَّاب، والمتزوجين حديثًا ومن آباء لأطفال صغار، واصفًا إياهم بأنهم «مركز العامود الفقرى للذات الإسرائيلية»؛ وهو ما يؤكده ثلاثة من كبار الأساتذة المتخصصين بجامعة تل أبيب: «هناك زيادة ملحوظة ومقلقة فى عدد الإسرائيليين الذين يغادرون البلاد مع التركيز على الأطباء (غادرها نحو 875 طبيبًا بين يناير 2023 وسبتمبر 2024م)، والمهندسين (نحو 3 آلاف مهندس، ونحو 19 ألفًا من حملة البكالوريوس، من بينهم نحو 6600 من أصحاب التخصصات العلمية والتكنولوجية)، وأصحاب القدرات العالية»، محذرين من أن عدم العمل على تغيير هذا الاتجاه «سيقود إلى تطورات أعمق فى الدولة سيكون التراجع عنها صعبًا، وربما مستحيلًا».
يتجاهل، نير كيبنيس، تأثير السابع من أكتوبر 2023م، أو كل الحروب التى خاضتها إسرائيل فى الآونة الأخيرة، سواء فى لبنان، أم فى إيران، أم فى اليمن، تجاهلًا تامًا، وهو غير محق فى ذلك، إذ إنه لا يمكن إهمال هذا السبب، وتجاهله بالمطلق.
• • •
تتعلق الأسباب الأخرى بالتغيرات الداخلية فى إسرائيل، وعلى رأسها: تركيز السلطة فى يد شخص واحد، هو بنيامين نتنياهو (18 عامًا فى الحكم حتى الآن، مع انفراده بتعيين أشخاص يدينون له شخصيًا بالولاء فى مناصب حساسة، مثل رئيس الشابك، دافيد زينى، ورئيس الموساد، رومان جوفمان) وتقليص هامش الديمقراطية، وشن حرب شعواء على السلطة القضائية، مع رغبة فى احتوائها، وتطويعها لصالح تيار بعينه، هو التيار اليمينى، الحاكم، ومحاباة التيار الدينى المحافظ ــ الحريدى ــ على حساب سائر الإسرائيليين الذين يؤدون الخدمة العسكرية ويمتثلون، بعد تسريحهم، لخدمة الاحتياط أيامًا عديدة فى السنة.
فى هذا الصدد، يقول البروفيسور، إيتى أطار، الأستاذ بكلية الإدارة: «تحتفى الحكومة بمصالح جماعات معينة ذات مصالح فئوية وليس بمصالح عموم السكان، وتدفع الشباب والشابات من ذوى التعليم العالى والقدرة على الكسب الأفضل نحو مغادرة إسرائيل أكثر وأكثر»، مقدرًا أن الانتخابات القادمة (فى أكتوبر 2026م، إذا لم يجد جديد) ستكون «كارثية فيما يتعلق بتحديد طبيعة ومستقبل دولة إسرائيل».
من جانبه، يحمِّل، نير كيبنيس، وزير العدل الإسرائيلى، ياريف ليفين، «الذى حاد عن الصراط المستقيم»، ووزير الأمن القومى الإسرائيلى، إيتمار بن جفير، «الذى حول الشرطة إلى شرطة للأفكار»، ووزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، «الذى يحلم بتهجير الفلسطينيين، وبالاستيطان إلى ما لا نهاية»، ورئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، «الذى لن يتورع عن القيام بأى مناورة من أجل التهرب من سيف العدالة»، بأنهم السبب فى دفع آلاف الإسرائيليين للبحث عن مستقبل فى مكان آخر.
• • •
يشير ناداف إيال، إلى أن هذا الاتجاه، المتمثل فى مغادرة إسرائيليين إلى الخارج دون عودة، «ربما يكون مريحًا للائتلاف الحاكم، لأن سمات المغادرين تشير إلى أنهم ليسوا داعمين بارزين للحكومة الحالية»، مشيرًا إلى أن الائتلاف الحاكم «أدار لسنوات حملة متواصلة ضد «النخب»، التى هى شرط أساس لوجود كل دولة من دول العالم الأول فى حالة مزدهرة (...) حين تثابر الطبقة الحاكمة على إهانة النخب وعلى إهمال خدمات حيوية مثل التعليم، وينهار الأمن، كما اتضح فى السابع من أكتوبر، فإن تلك النخب تفهم الرسالة، وترحل ببساطة فى بعض الأحيان (...) فى نهاية الأمر، من شأن الدولة التى اعتادت محاربة نخبها أن تكتشف أن هذه النخب لن تبقى لتحارب من أجلها».
يتراسل هذا التكالب على جواز السفر البرتغالى مع المعطيات التى نشرها مركز البحوث والعلوم التابع للكنيست الشهر الماضى، والقائلة بأنه قد «طرأت زيادة فى عدد الإسرائيليين الذين غادروا إسرائيل لمدى طويل خلال العامين 2022 ــ 2023م، حيث غادر 59400 إسرائيلى خلال عام 2022م، بزيادة قدرها 44% عن السنة السابقة، و82800 فى عام 2023م بزيادة قدرها 39% عن السنة السابقة؛ وأن الزيادة فى عدد المغادرين فى عام 2024م ظلت كما هى حيث كان عدد المغادرين خلال الشهور من يناير وحتى أغسطس 2024م مماثلًا لعدد الشهور المقابلة فى 2023م».
ثمة شعور، فى حقيقة الأمر، لدى قطاع من الإسرائيليين، خاصة الليبراليين والعلمانيين، بأنهم أصبحوا غرباء فى الدولة التى تنزاح يومًا إثر يوم نحو اليمين، ونحو الديكتاتورية، ونحو العسكرة؛ وهو شعور يتردد بشكل واضح ويلمسه كل متابع لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة