منذ أن بدأ الإنسان رحلته نحو الفضاء منتصف القرن العشرين، كان التحدى الأكبر يتمثل فى مواجهة التعقيد الهائل للمهمة: ملايين الحسابات، ظروف قاسية، ومخاطر لا يمكن التنبؤ بها. واليوم، ومع دخول الذكاء الاصطناعى (AI) إلى ميدان الفضاء، لم يعد الأمر مجرد تطور تقنى، بل أحدث تحولًا جذريًا فى طريقة تعاملنا مع الكون. فالذكاء الاصطناعى أصبح شريكًا أساسيًا يفتح أبواب المعرفة، ويزيد من كفاءة الاستكشاف، ويمنحنا أدوات لمواجهة التحديات غير المسبوقة.أحد أهم التحديات فى علوم الفضاء هو الكم الهائل من البيانات التى تنتجها التلسكوبات والمركبات الفضائية. تلسكوب مثل James Webb ينتج يوميًا تيرابايتات من الصور والقياسات الطيفية، والتى يصعب على العلماء تحليلها بالطرق التقليدية.هنا يتدخل الذكاء الاصطناعى عبر خوارزميات التعلم العميق التى تستطيع تمييز الأنماط الخفية فى هذه البيانات، واستخلاص معلومات دقيقة عن المجرات البعيدة، تكوين النجوم، وحركة الكواكب. هذه القدرة تقلل الزمن المطلوب للتحليل من سنوات إلى أيام، وتفتح المجال لاكتشافات لم يكن ممكنًا الوصول إليها سابقًا.من أكبر إنجازات الذكاء الاصطناعى فى الفضاء أنه منح المركبات الفضائية والروبوتات قدرة على الاستقلالية التشغيلية. فعلى سطح المريخ مثلًا، يعتمد الروبوت Perseverance على خوارزميات ذكاء اصطناعى لتحديد مساره، وتجنب الصخور والمعوقات، واختيار مواقع الحفر الأكثر وعدًا.هذا يقلل الاعتماد على الإشارات القادمة من الأرض، والتى قد تتأخر دقائق بسبب المسافة، ويجعل المركبة أكثر قدرة على التعامل مع المفاجآت بشكل لحظى. النتيجة هى تسريع وتيرة الاكتشافات وتقليل المخاطر التشغيلية.مع التحضير لرحلات مأهولة إلى المريخ أو إلى محطات أبعد، تظهر أهمية الذكاء الاصطناعى فى إدارة الموارد الحيوية، مثل الأكسجين والماء والطاقة. أنظمة ذكية قادرة على التنبؤ بالاستهلاك، وإعادة توزيع الموارد بكفاءة، بل حتى إدارة الزراعة الفضائية فى بيئات مغلقة. ففى التجارب التى أُجريت فى محطات فضائية مصغرة على الأرض، أظهرت الخوارزميات قدرة على ضبط الإضاءة والتهوية والرطوبة بدقة فائقة، ما وفر استقرارًا بيئيًا للنباتات. هذا النوع من التطبيقات سيصبح أساسيًا لبقاء الإنسان فى رحلات فضائية طويلة.المركبات والأقمار الصناعية تواجه مخاطر متعددة: الإشعاعات الكونية، الحطام الفضائى، أو حتى الأعطال التقنية المفاجئة. الذكاء الاصطناعى يستخدم اليوم فى أنظمة التشخيص التنبئى التى تكشف مؤشرات الخلل قبل حدوثه، وتوصى بإجراءات وقائية أو تعديلات تقنية.هذا لا يقتصر على خفض الأكلاف فحسب، بل يحمى استثمارات بمليارات الدولارات ويضمن استمرارية المهمات الحيوية، مثل الاتصالات والمراقبة الأرضية.الفضاء لم يعد ميدانًا علميًا فحسب، بل تحول إلى اقتصاد ناشئ. الذكاء الاصطناعى يُستخدم لتقييم فرص التنقيب عن المعادن النادرة فى الكويكبات، وتحليل بيانات الملاحة لرسم مسارات اقتصادية أكثر أمانًا وأقل تكلفة.لكن إدماج الذكاء الاصطناعى فى الفضاء يفتح الباب لتحديات استراتيجية وأخلاقية: • من يملك المعرفة الفضائية؟ هل ستظل حكرًا على القوى الكبرى أم تُشارك مع البشرية جمعاء؟ • الاستقلالية المفرطة: أنظمة ذكاء اصطناعى قادرة على اتخاذ قرارات ذات طابع مصيرى قد تثير جدلًا حول حدود السيطرة البشرية. • الأمن الفضائى: إذا أصبحت الأقمار الصناعية تعتمد على الذكاء الاصطناعى بشكل كامل، فإن اختراق هذه الأنظمة قد يشكل تهديدًا عالميًا.الذكاء الاصطناعى لن يكون بديلًا من الإنسان فى استكشاف الفضاء، بل شريك مكمل. الإنسان يمتلك الخيال والقدرة على اتخاذ قرارات ذات بعد أخلاقى وفلسفى، بينما يوفر الذكاء الاصطناعى السرعة، الدقة، والقدرة على التعامل مع كميات هائلة من البيانات.المستقبل سيقوم على تعاون متكامل: أنظمة ذكية تُبنى عليها المدن الفضائية، مركبات مستقلة تستكشف الكواكب، وعلماء يستخدمون هذه الأدوات لفهم أسرار الكون وصوغ استراتيجية طويلة المدى للبقاء البشرى خارج الأرض.الذكاء الاصطناعى فى الفضاء ليس مجرد تقنية جديدة، بل منعطف تاريخى فى علاقة الإنسان بالكون. فهو يضاعف قدراتنا على الرؤية والتحليل، يضمن استدامة مواردنا فى الرحلات الطويلة، ويمنحنا وسائل لإدارة المخاطر والتحديات.إذا كان الفضاء هو الامتداد الطبيعى لطموحات البشر، فإن الذكاء الاصطناعى هو المحرك الذى سيجعل هذه الطموحات ممكنة. ومع تزايد التداخل بين العلم والتقنية، يبدو واضحًا أن استكشاف المستقبل لن يُكتب بالجهد البشرى وحده، بل بشراكة جديدة بين الإنسان والعقل الاصطناعى.راشد شاتيلا جريدة النهار العربى اللبنانية
مقالات اليوم جميل مطر من ثمار الإبادة حسن المستكاوي مفاجأة كاب فيردى ودرسها عماد الدين حسين لماذا أوقف ترامب الحرب؟! أشرف البربرى أكذوبة السلام الغربى خالد عزب صلاح الدين الأيوبى.. الأسطورة والحقيقة والأكاذيب محمد عبدالشفيع عيسى إزريل.. ترنّح مشروع القوة الإقليمية الكبرى والكبيرة والعظمى! قضايا اقتصادية التطورات الجيوسياسية وانعكاساتها على قطاع الطاقة
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك