من قصر التحرير فى قلب القاهرة، تحركت خيوط الأمل مجددًا فى أحد أعقد ملفات المنطقة: البرنامج النووى الإيرانى. فقد استقبل وزير الخارجية المصرى بدر عبد العاطى، الثلاثاء الماضى، نظيره الإيرانى عباس عراقجى، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسى، فى اجتماع ثلاثى عُقد وسط ترقّب إقليمى ودولى واسع.
لم يكن هذا اللقاء وليد لحظته، فالقاهرة أجرت على مدى الأسابيع الماضية سلسلة اتصالات مع كل من طهران والوكالة الدولية؛ لتهيئة الظروف لاستئناف المفاوضات حول الملف النووى الإيرانى بعد أشهر من القصف الإسرائيلى ــ الأمريكى لمواقع نووية داخل إيران فى يونيو الماضى. ذلك القصف عطّل بعض المرافق لكنه لم يمحُ المعرفة التقنية التى راكمتها طهران، بل زاد الشكوك وأفقد الوكالة الدولية ما تسميه «استمرارية المعرفة» حول حجم مخزون اليورانيوم عالى التخصيب ومساراته.
• • •
منذ تلك الحرب، شنّت طهران هجومًا حادًا على جروسى، متهمةً إياه بتقديم مبررات للعدوان عليها، وهو ما نفاه الرجل. وأقرّ البرلمان الإيرانى قانونًا يعلّق التعاون الكامل مع الوكالة ويشترط موافقة المجلس الأعلى للأمن القومى على أى عملية تفتيش. وهكذا تقلصت الزيارات الدولية إلى منشآت محدودة مثل مفاعل بوشهر ذى المخاطر الأقل، بينما بقيت المنشآت الرئيسية مغلقة أمام أعين المفتشين. فى المقابل، أطلقت الترويكا الأوروبية (باريس، لندن، وبرلين) ما يُعرف بآلية «الزناد» أو «سناب باك» لإعادة فرض العقوبات الأممية، مهددةً بالمضى قدمًا إذا لم تستعد الوكالة صلاحياتها كاملة فى التفتيش والتحقق.
أمام مجلس محافظى الوكالة الإثنين الماضى قال جروسى جملة لافتة: «لا يزال هناك وقت، ولكن ليس كثيرًا». العبارة تحمل تحذيرًا مبطّنًا: المطلوب خطوات عاجلة لإعادة بناء الثقة، وإلا فإن نافذة الدبلوماسية ستضيق أكثر فأكثر.
• • •
فى هذا السياق المأزوم، يبرز الدور المصرى؛ فالقاهرة لا تملك حلولًا سحرية، لكنها تملك ما هو أهم: مصداقية تاريخية فى دعم الاستقرار الإقليمى، وعلاقات متوازنة تسمح لها بأن تكون مساحة آمنة للحوار. من هنا جاءت أهمية جمع عراقجى وجروسى فى العاصمة المصرية، بما أتاح نقاشًا مباشرًا بعيدًا عن التوترات الإعلامية والسياسية.
يمكن القول إن القاهرة تسعى إلى تقريب وجهات النظر وتسهيل العودة إلى طاولة المفاوضات على أسس عملية. ويُمكن للمراقب أن يقترح أن يركز الجهد المصرى خلال المرحلة المقبلة على فتح قنوات تواصل أوسع بين إيران والغرب حول صفقة متوازنة: تخفيف جزئى للعقوبات مقابل وقف أى توسع نوعى فى التخصيب واستعادة نطاق التفتيش.
• • •
الجانب الإيرانى من جهته يحاول أن يظهر مرونة مشروطة. وزير الخارجية عباس عراقجى كتب فى صحيفة الجارديان مؤخرًا أن طهران مستعدة لاتفاق «حقيقى» يُرفع بموجبه الحظر مقابل قيود واضحة على أنشطتها النووية، لكنه فى الوقت نفسه أدان تحرك الأوروبيين لتفعيل «آلية الزناد». أما وزارة الخارجية الإيرانية فأكدت أن المفاوضات مع الوكالة كانت «إيجابية» وإن لم تصل بعد إلى نتائج نهائية.
كل ذلك يجرى فى ظل معادلة إقليمية صعبة: لا حرب شاملة ولا سلام كامل. فشل المحادثات يعنى مزيدًا من العزلة لإيران، وقلقًا متزايدًا فى الغرب من سباق تسلح نووى جديد، وضغوطًا إضافية على منطقة لا تحتمل جبهة مشتعلة أخرى. النجاح، فى المقابل، قد يفتح الباب أمام تفاهمات مرحلية تخفف التوتر وتعيد للوكالة دورها الرقابى.
• • •
يمكن القول إن ما يميز التحرك المصرى هو تركيزه على ما هو واقعى وقابل للتطبيق، لا على الشعارات الكبرى؛ فالقاهرة تراهن على منهج «الخطوات المتدرجة» التى تبنى الثقة وتفتح الباب أمام مسار تفاوضى أطول. والنجاح هنا لا يُقاس ببيانات سياسية لامعة، بل بقدرة الأطراف على الحفاظ على قنوات الحوار مفتوحة وتجنب التصعيد الذى قد يجر المنطقة إلى مواجهة لا يريدها أحد.
القاهرة، إذن، لا تدخل هذا الملف كوسيط طارئ، بل من موقعها الطبيعى فى العمل على ضمان الأمن الإقليمى. وإذا كان الحديث عن «اختراق كبير» سابق لأوانه، فإن مجرد جلوس الأطراف الثلاثة فى قصر التحرير، والاتفاق على مواصلة التفاوض خلال أيام، هو مؤشر إلى أن خيوط الأمل لم تنقطع بعد. ومن خلال هذه الخيوط الدقيقة تُحاول مصر أن تنسج مسارًا جديدًا يعيد إلى الشرق الأوسط بعضًا من الاستقرار المفقود.