من رأس الحكمة إلى الخروبة

الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 - 9:30 م

تابعنا فى المقال السابق رحلتنا إلى سيدى عبد الرحمن بالساحل الشمالى، فى صحراء مصر الغربية وتعرفنا على الحكاية الأسطورية لسيدى عبد الرحمن، الولى الشهير فى الإقليم.

يقول جورج مرى إنَّه منذ ظهور المكانة الدينية لسيدى عبد الرحمن صدَّق باشوات مصر وملوكها الأثرَ الكبير للولى القادم من ليبيا. وكان أحدث مَن اعتنى بضَريح الولى الليبى الخديوى عباس حلمى الثانى الذى أمرَ بإكرام الضريح المتواضع فبنى له مسجدًا جميلًا طمعًا فى نَيل بَركته.

وعلى خطى عباس حلمى الثانى سارَ الملك فؤاد الذى أمر بتجديد المسجد والمقام. لكنَّ شيئًا عجيبًا قد وقع بعد تلك التَّجديدات الملكية وهو أنَّ أهالى بلدة سيدى عبد الرحمن وسكانَ الساحل الشمالى لاحظوا تراجعَ كرامات سيدى عبد الرحمن ولم يعدْ مؤثرًا فعّالًا، لقد كان مؤثرًا ونافعًا وصاحبَ يدٍ طولى حين كان ضريحًا فقيرًا ومقامًا متواضعًا. ما إن امتدَّت له يدُ الترميم والعناية ولمسات الملوك ورعايتهم حتى فقدَ الولى الليبى أثرَه وتراجعت كراماتُه!

 

إلى رأس الحكمة

كانت أولى زياراتى إلى منطقة «رأس الحكمة» فى شمال الصحراء الغربية عقبَ تخرجى فى الجامعة. تلفتُّ أبحث هنا عن مَخافة الله فى مسمى «رأس الحكمة» فتَّشت عن تفاعل البحر والصخر بين أعشاب البحر التى طردتْها بإهانةٍ أمواجٌ مَغرورة، غرستُ يدى مرارًا أتلمَّسها فى رمال تلالٍ ناصعة البياض كأنها فرَّت إلينا من بلاد الشمال، أدرتُ رأسى مرارًا بين أغصان أشجار التين العتيقة. ما تلك المصادفة التى تجمع المكانَ باسمِه التاريخى؟ كيف حلَّت «رأس الحكمة» محلَّ اسمها فى العصر المسيحى «رأس الكنايس».

أى جغرافى عَبقرى نصح الملوكَ والحكام عبرَ آلاف السنين ليتَّخذوا هذا المكان منتجعًا لهم. توقَّفت فى «خليج الأميرات» عند أبعَد نقطة فى البحر من «رأس الحكمة». مكان يستحقُّ اسمَه عن جدارة: ماء رقراق، بحر أزرق مُبهج، رمال حانيَة على أقدام الأميرات والملكات والوَصيفات.. أكاد أسمع صدَى صوتهنَّ مازال يتردَّد بين جنبات المكان.

قرية «فوكة» واحدةٌ من قرى بَدوية عديدة فى رأس الحكمة، مررتُ عليها فى سنوات سابقة ولم تنجح فى أن تلفتَ انتباهى. هذه المرَّة انشقتِ الأرضُ أمام حافلتنا فامتَشَق جسرٌ أنشِئ حديثًا فوق السكة الحديد مرتفعًا عن الأرض عشرين مترًا فأعطانا مرورًا حرًّا رأيت معه المكانَ من علٍ كما لم أشاهدْ من قبل. خرجَتْ من فمى كلمة «الله».

راسمًا على وجهه ابتسامةَ سخرية ردَّ سائقى البَدوى: «يعجبك الجِسر؟! يؤلمنى أنا جدًّا.. نمرُّ هنا فوق دماءِ العشرات من أبناء بلدتنا، هذا الجسرُ أقيم بعد فَوات الأوان، هنا اصطدم القطارُ بعربات النقل وسيارات المسافرين.. وفقدتُّ بينهم صديقَ عمرى».

ثلاثةُ أيام من التجوال على الأقدام فى رأس الحكمة، واتجهتُ بعدها طلبًا للراحة فى مرسى مطروح، ومنها متَّجهًا بغربٍ إلى الخروبة. هذه هى المرةُ الأولى منذ ترحالى بين بدو الصحراء التى يأمنُ لى فيها أحدُهم ويَفتح لى أرشيفَ عائلته المصوَّر. وضع صالح العشيبى صورَ النساء جانبًا (مخبئًا إيّاها برفق أسفل وسادة عن يسارِه بعيدًا عن عينى).

فى بيت البدوى فى الخروبة رأيت عشراتٍ من الصور شَغَفتنى، لو أنَّ هناك أرشيفًا قوميًّا فى هذا البلد لتمَّ جمعُ ما بحَوزة العشيبى وأمثاله من عوائل الصحراء وأودعَتْ نسخٌ منها فى متحفٍ وطنى لتطَّلع عليها الأجيال. بين الصور الرمادية لعائلة العشيبى رجعتُ عقودًا بالزمن: صور مدهشَة لحياة الفروسية، الأزياء التَّقليدية التى كادت تنقرضُ اليوم، نمطُ الحياة البدوية سعيًا للرعى أو صيد الأرانب البرية، تطوّر وسائل النقل من «الناقة» إلى «التايوتا»، وصورٌ مع بعض رموز ثورة يوليو، وفى مقدِّمتهم اللواء محمد نجيب يتوسَّط عائلةَ العشيبى.

انتقلتُ من بيت العشيبى إلى بيت الجيران فى قرية الخروبة، حيث الشيخ المرابط. جلستُ إليه فى المرْبوعة فى بيتِه المعلَّق فوق الهضبة الجيرية خلفَ مرسى مطروح فى طريقنا إلى سيوة. دار بينَنا الحوار التالى، وقد حذفتُ الأسئلة وتركتُ لكَ ــ عزيزى القارئ ــ إجاباتِ الشيخ حامد المرابط:

     •     ما أعرفه وعلَّمنى إياه أجدادى أنَّ اسمَ المكان لا علاقةَ له بشجرة الخروب. أعطى الأجدادُ المكان هذا الاسمَ بسبب الخراب الذى كنّا نعيش فيه. لم تكن تسمع هنا قبل عقودٍ قريبة سوى أصواتِ السيول والرياح. ما تراه حولَك هنا من عمَار وخَضار هو ابنُ العقود الأخيرة فقط، لم نعد نخافُ الآن على أغنامنا، كنا فى السابق نَحميها فى كهوف الجبال خلفَ الخيام كى لا يجرفَها السيل القاتل.. اليوم بَنينا لها حظائرَ مانعة آمنة. نعم. يمكنك أن تسمِّى المكانَ الآن «المعمورة». مصادرُ الكسب أصبحت أوسعَ مما مضى، كنا نعيش على ما تجودُ به الزراعة البعلية لأشجار التين والزيتون وما توفِّره الأمطار من عشب للأغنام والإبل. اليوم فُتحت أبوابُ رزقٍ أوسعَ على أبنائنا. أغلب الناس هنا يربّون أولادهم على الكسب الحَلال.. لكن فى كلِّ مكان الطالح والصالح كما تعلم.

     •     نعم، وفَّرت لى المدنية الطحينَ الجاهز للخبز لكنى أشتاقُ إلى الدشيشة (طعام من قمح برّى يكسَر ويُطبخ كالأرز) والرُّب (عصير التمر). لا أنكر أنَّ الحياة الآن أفضلُ لكنْ صحتى أسوأ.. لقد جاءتِ الأشياء التى كنت أتمنّاها متأخرة.

     •     الأمرُ ليس بهذا الوضوح الذى تظنُّه فارقًا بين قديم وجديد، مازلنا نحافظ على تراث الآباء، كنّا نقيم كلَّ عام مولدَ سيدى «عبد القادر المسمارى»، نجهِّز الطعام للفقراء وغيرِ القادرين، نرقصُ بالخيول ونَرتدى لباسَنا التقليدى ونقيم فى نهاية الليل حلقاتِ الذكر العامرَة بالإنشاد الدينى على صوت الدفوف. للأسف الأبناء لا يهتمون بذلك مثلنا، بعضهم فقدَ عقله: كيف يقول لى أحدهم إنَّ هذا شركٌ وبدعة؟!

     •     لمَ العجلة؟ لا بدَّ أن تذهب لترى مقامَ سيدى المسمارى، كان لهذا الشيخ كراماتٌ انتشرت فى كلِّ ربوع وادى الخروبة، هل رأيت مقابرَ «العويلة» (الأطفال الصغار) سبعة أطفال ماتوا واحدًا تلوَ الآخر حينما غضبَ الشيخ على أبيهم، اجلسْ لأحكى لك القصة. كلُّ شىء جاهز ترحيبًا بك، ينتظرنا «أبو مردوم» (وجبة من لحم الضأن سوّيت على نارٍ أوقدَت من حطب أشجار السنط، وفيها توضَع قطعُ اللحم مباشرة على الصخور فى بطن الأرض ثمَّ تُطمر بالرمل ويوقَد فوقها مجددًا لمدَّة ساعة ونصف.. وتستغرق عملية الطهى برُمتها ما بين 3 إلى 4 ساعات).

     •     ضاحكًا: أنت تجمعُ الأشياء القديمة حولنا لتَظهر فى الصورة؟ لا تخدع طلابَك! قلْ لهم الحقيقة.. أخبرهم أننى منذ عقدين أو أكثر لم أعدْ أضع إبريقَ المياه فوق لمبة الجاز طيلةَ الليل حتى إذا جاء وقتُ صلاة الفجر وجدتُّ الماء دافئًا للوضوء.. اليوم عندنا سخّانات مياه كهربائية.

ثم أردف مبتسما: هل تريد أن تنشرَ ما تَكتب الآن لأصدقائك على الإنترنت؟ عندى وَصلة واى فاى!

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة