روايتان من عيون الأدب الروسى الكلاسيكى قبل السوفيتى، يلخّص عنواناهما الحال الذى نحن فيه، ومعنا هذا العالم المعذَّب منذ زمان. رواية «الحرب والسلام» من تأليف تولستوى، ورواية «الجريمة والعقاب» من تأليف ديستويفسكى.
ونحن ــ وعالمنا من حولنا ــ نعيش هاتين، فنحن مذبذبون بين الحرب والسلام، ولكننا ــ والحق يُقال ــ إلى لغة وممارسة الحرب أقرب. كما أننا نعيش عالم الجريمة كل يوم محليًا وإقليميًا وعالميًا، على كل صعيد، جنبًا إلى جنب مع الإفلات من العقاب بلغة القانون الدولى هذه الأيام.عالمنا إذن يعيش الحرب والجريمة، ولكن بلا سلام، وبدون عقاب! فياله من عالم متوحش، وإن كانت الوحوش أحيانًا أفضل من بعض الأناسى!.فأمّا عن الحرب فحدّث ولا حرج، وخاصة فى العصر الحديث، وبصفة أخص فى أزمنة سيادة النظام الرأسمالى ــ الاستعمارى الغربى، منذ أوائل القرن السادس عشر (لا سيما بعد سقوط غرناطة، آخر مدن الأندلس عام 1492) حتى الآن (أوائل القرن الحادى والعشرين). فيالها من خمسة قرون متقلبة المزاج، وإن كانت للمزاج السوداوى أقرب!.• • •خذ أمثلة على ذلك منذ تغلغل البحارة الإسبان والبرتغاليين والهولنديين من قبل، على شواطئ المحيطات والبحار، وفى أدغال الغابات ومناحى الصحراء، وكذا على تخوم القرى والمدن وفى قلبها، المتوسطة والصغيرة على كل حال، فى مختلف أقاليم وبلدان قارة إفريقيا (السمراء) وآسيا (متعددة الألوان).ثم خُذ أمثلة من ممارسات الاستعمار البريطانى والفرنسى (ولِمَ لا نقول الإسبانى والبرتغالى من قبل) فى كل من أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية.وأنعِم النظر فى موت الملايين من أبناء بلدان إفريقيا الشاطئية والوسطى، على ظهور السفن المتهالكة المتوجهة إلى حيث المصير المظلم فى أمريكا الشمالية بالذات، ليعملوا كعبيد موصوفين؛ وهو مصير أفضل من مصير الملايين من أبناء السكان الأصليين الذين أُطلق عليهم اسم (الهنود الحمر) لنزع الصفة الوطنية عنهم، وتم استئصالهم عضويًا باستخدام بنادق البارود، فى معركة غير متكافئة مع السيوف والسكاكين. وكان للأوروبيين البيض ما أرادوا من انتزاع الأرض بقوة السلاح (البارود) الحديث.أما فى عموم إفريقيا، وخاصة آسيا، فى الشرق والغرب والشمال والجنوب، فكان إخضاع الشعوب المستعمَرة بالقوة (إخضاع مصر بعد ثورة عرابى عام 1881 مثالًا)، وشنّ الحروب الظالمة (حرب الأفيون الصينية مثالًا آخر)، وكذا الاستيطان القسرى. وفى حال قيام الثورات الوطنية، فالويل والثبور وعظائم الأمور للثوار ذوى النفس الوطنى العميق. وما المثال العربى الجزائرى ببعيد، حيث راح فى حرب التحرير الوطنى، طوال ثمانى سنوات تقريبًا (1954-1962)، الملايين من الشهداء، ما تزال علاماتهم مضيئة فى مختلف البقاع الجزائرية الشمّاء (مثل مصطفى بن بولعيد، وعباس لغرور، وحسيبة بن بوعلى)، إلى جانب المستبسلين والمستبْسلات على مشارف الموت مثل (جميلة بوحيرد).• • •هذا كله عن جوانب من قصة الاستعمار والحرب، فماذا عن قصة السلام؟ ولكن لا سلام حقيقيًّا على كل حال، فهو سلام بارد، متقطع، ينتج عن حرب تلد أخرى..! والأمثلة التاريخية على ذلك تَجِلّ عن الحصر، فنتركها جانبًا مؤقتًا، ولننتقل إلى قصة «الجريمة والعقاب».فهل لقيت جريمة الاستعمار عقابًا؟ انظر إلى أمثلة قليلة على ذلك، منها ما وقع فى فيتنام على أيدى الاستعماريْن الفرنسى ثم الأمريكى منذ مطلع خمسينيات القرن الماضى حتى انطلاق مسار التسوية عام 1973. فهل عوقب مجرمو العنف والقتل والاستيطان العنصرى؟ أم أنه لولا حركة التحرر وحروب التحرير الوطنية، لما نال المجرمون عقابهم إلا على أيدى الثوار الذين لقوا ما لقوا من أثمان باهظة فى الأنفس والأموال طوال عشرات السنين؟بالإضافة إلى الجرائم الكاملة، فإن بعضها يحتوى على جرائم جزئية تستحق عقابًا خاصًا، منفصلًا ربما، ومن ذلك جريمة إجراء تجارب القنابل الذرية تحت الأرض ودفن النفايات النووية فى جوف صحراء الجزائر، بآثارها الإشعاعية الضارة الممتدة على البشر والحجر لمئات السنين. عُدَا عن ذلك، توجد أمثلة ليست أقل شأنًا، ولكنها بالمعيار الشكلى صغيرة الحجم نسبيًا، مثل جريمة (دنشواى) فى مصر عام 1906 على أيدى المستعمرين الإنجليز. والقصة معروفة، حيث أُصيب جندى بريطانى بضربة شمس أودت به، فتم اقتياد جمهور القرية من زمام محافظة (المنوفية)، وأُقيمت محاكم عسكرية ميدانية (شكلية)، وتم إعدام أربعة من أبناء القرية على رأسهم (الفتى زهران) بدم بارد، بالإضافة إلى أحكام عقابية قاسية ما بين الأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والسجن والجلد على كثيرين. ولم يتلقَّ المستعمرون المجرمون عقابًا يُذكر، إلا ما تم عبر تحركات بعض الأبطال الأفراد (أدهم الشرقاوى مثالًا)، ثم من (الحركات السرية ضد الإنجليز)، كما ذكر المرحوم وسيم خالد فى كتابه منذ زمن بهذا العنوان.• • •فماذا نقول؟ هل نقول إن عدم توقيع العقاب يعنى «شرعنة» الجريمة؟ لا، ليس ذاك، وإنما هى موازين القوى المتغيرة تفرض كلمتها بين حين وآخر على المدى الزمنى الطويل نسبيًا، فالجريمة جريمة، وسيتلقى مرتكبوها عقابهم ولو بعد حين.فهاتان إذن روايتان من الأدب الروسى يلخص عنواناهما ما جرى ويجرى فى جميع الأحوال. وقد قصدنا عدم الإشارة إلى جريمة العصر بتعبير أحمد بهاء الدين، أى استيلاء الصهاينة ــ بمساعدة البريطانيين ثم الأمريكيين ــ على فلسطين، وممارسة مختلف صنوف الجريمة الموصوفة، عن طريق عصابات منظمة منذ ما قبل نكبة فلسطين عام 1948 وحتى الآن.وإن شئت أن تشير إلى ما وقع خلال حرب غزّة منذ السابع من أكتوبر 2023، فلك ذلك، وما هو ببعيد. ولن نفيض فيه، فأوراقه مبسوطة أمام الأعين على امتداد أركان المعمورة الأربع، إذ تعفّ الذاكرة الإنسانية عن حصرها من قبل ومن بعد.!إنها إذن بصمات الدم التى لا تُنسى، ولكنها لن تزول بمجرد التذكر، وإن كان التذكر ضروريًا، ولسوف يبقى العمل الوطنى التحررى طريقًا لا يُرَدّ نحو استرداد الحقوق حين يجدّ الجد..!أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
مقالات اليوم حسن المستكاوي ثورة جوارديولا على أسلوبه عماد الدين حسين حفل المتحف.. المعجبون والمعارضون.. وما بينهما طلعت إسماعيل «فجر الضمير» فى المتحف الكبير بشير عبد الفتاح الإعمار المشروط مصطفى الفقي نحو سياسة عربية مختلفة نادين السيد دى حكاية شعب وأرض وناس من الصحافة الإسرائيلية تومر يروشالمى.. التسريب لن يجعلها قديسةً معذبة قضايا إسرائيلية واشنطن ليست شرطى مرور فقط قضايا تكنولوجية فقاعة الذكاء الاصطناعى المقبلة
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك