د. محمد عفيفي يكتب في ذكرى أديب نوبل: نجيب محفوظ المؤرخ - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 8:31 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

د. محمد عفيفي يكتب في ذكرى أديب نوبل: نجيب محفوظ المؤرخ


نشر في: الأربعاء 19 ديسمبر 2018 - 10:49 ص | آخر تحديث: الأربعاء 19 ديسمبر 2018 - 10:52 ص

يشغل التاريخ حيزا هاما فى وعىِّ وذاكرة نجيب محفوظ، إذ وُلد محفوظ فى عام 1911، وسيُكْتَب لهذا الجيل أن يعيش ويترعرع فى ظل المناخ الليبرالى، أو شبه الليبرالى، الذى قام فى أعقاب ثورة 1919. كما يُعتبر هذا الجيل بحق جيل القومية المصرية بعد قطع الصلة بين مصر والدولة العثمانية، وإلغاء الخلافة العثمانية فى عام 1924. وهو الجيل الذى سيُبهَر بالحضارة الفرعونية، لا سيما مع اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون فى عام 1922، هذا الحدث الذى شكَّل وعيّ الأجيال الشابة بعد ذلك بأن نهضة مصر الحديثة تستند إلى ماضيها العريق «الفرعونى». وسيظهر ذلك جليا فى تمثال نهضة مصر لمحمود مختار، حيث تستند مصر «الفلاحة المصرية» على تمثال أبوالهول، أى ماضيها الفرعونى.
ويظهر ولع محفوظ بالتاريخ عامة، والتاريخ الفرعونى خاصة، فى مرحلةٍ مبكرة من شبابه؛ إذ يقوم بترجمة كتاب «مصر القديمة» عن اللغة الإنجليزية فى عام 1932، أى وهو فى العشرينيات من عمره، ثم يُصدر ثلاثية رواياته عن الحقبة الفرعونية وهو فى نهاية العشرينيات وبدايات الثلاثينيات من عمره. من هنا سيصبح التاريخ وحركته ركنا أساسيا فى أعمال محفوظ الروائية. وسنحاول إبراز ذلك من خلال رواية الأجيال أو الثلاثية الشهيرة لمحفوظ (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، أو حتى العمل الفذ «أمام العرش» الذى اختبأ فيه محفوظ وراء الأسطورة والتاريخ لتمرير الكثير من الآراء التاريخية.
وليس الهدف محصورا فى إجراء «مراجعة تاريخية» للثلاثية كما دأبت بعض المسلسلات التليفزيونية أو بعض الأفلام السينمائية التى تتعرض لحوادث التاريخ على الاستعانة «بمُراجِع»، مؤرخ، لمراجعة الأحداث التاريخية، كما أننا هنا لا نُشكِّل «محكمة تاريخ» للنظر فيما فعله محفوظ بالتاريخ فى ثلاثيته.
إن هدفنا مختلف كلية عن ذلك.. إننا نسعى إلى التعامل مع «النص الأدبيى» الذى كتبه محفوظ متمثلا فى الثلاثية، كمصدر «تاريخى» على المؤرخ أن يتعامل معه بشكلٍ حتمى، إذا إراد التأريخ للفترة التاريخية التى تغطيها الثلاثية، وهى تقريبا من ثورة 1919 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
والحق أننا يجب علينا أن نتعامل مع العمل الأدبى ــ والمثال الواقع لدينا هنا هو ثلاثية محفوظ ــ على أنه يقدم للمؤرخ رؤى وشواهد مختلفة مهمة ولا يقدم وقائع تاريخية، وعلى المؤرخ أن يستفيد من ذلك ويُحسِن هضمه مع مصادره التاريخية الأخرى؛ ليقدم لنا صورة أكثر «واقعية» و«مصداقية».
ويقدم لنا الجزء الأول من الثلاثية إجاباتٍ شافية وشواهد حول موقف قطاعاتٍ عريضة من الشعب المصرى من الحرب العالمية الأولى، أو حقيقة الأمر من القوى المتناحرة فيها. فقد وقف المثقفون المصريون الليبراليون إلى جانب الحلفاء ضد الوسط. وربما يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب لعل أولها الرغبة فى انتظار الديمقراطية أو الميل للحضارة الفرنسية أو سيادة مفهوم حزب «الأمة» القديم بأن إنجلترا رغم أنها الدولة المستعمرة فإنها تقوم بشكلٍ أو بآخر بدور حضارى فى مصر، وعلينا أن نتعامل مع إنجلترا ونكتسب منها الحضارة الغربية، حتى نستطيع أن نطلب منها الاستقلال عند وقوف مصر على أعتاب الحضارة الغربية، وتعبر عن ذلك بوضوح جريدة «السفور» لسان حال الليبراليين المصريين آنذاك.
ويقدم محفوظ صورة أخرى واقعية لتعاطف القطاعات الشعبية والطلاب والطبقة الوسطى الصغيرة مع دول الوسط ضد الحلفاء بزعامة إنجلترا. ولِما لا أليست بريطانيا هى المحتلة للبلاد منذ عام 1882؟ أليست هى التى تحول بين مصر وعودتها إلى دولة الخلافة العثمانية؟ إنها ليست وجهة نظر الحزب الوطنى – حزب مصطفى كامل – فقط وإنما هى وجهة نظر أغلبية الشعب المصرى آنذاك. من هنا مالت مشاعر أغلبية الشعب المصرى مع ألمانيا حليفة الدولة العثمانية، وعدوة إنجلترا المحتلة. وكان هذا تعبيرا عن المثل القائل «صاحب صاحبى هو صاحبى وعدو عدوى هو صاحبى». لكن هذه المشاعر انهارت بشدة مع هزيمة ألمانيا – ومعها الدولة العثمانية – وانتصار بريطانيا، وتبخرت الآمال فى جلاء الانجليز، ويأتى خير تعبير عن ذلك على لسان فهمى عبدالجواد الشاب المثقف، طالب الحقوق الذى سيصبح بعد ذلك أحد شهداء ثورة 1919:

«غُلب الألمان! من كان يتصور هذا؟! لا أمل بعد اليوم فى أن يعود عباس أو محمد فريد، كذلك آمال الخلافة قد ضاعت، ولا يزال نجم الانجليز فى صعود ونجمنا فى أفول، فله الأمر».
ومن ناحية أخرى يتمتع محفوظ فى ثلاثيته – وفى أعماله بصفةٍ عامة – بإعطاء أهمية كبرى إلى المكان،
ومن هنا يعطى محفوظ عبر ثلاثيته وصفا لتطور المكان وتطور هذه الأحياء «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكرية» وما لحق بها من تطورات وتغييرات سواء على دورها كأحياءٍ سكنية أو أسواقٍ تجارية رئيسية، وانتقال أدوارها التاريخية إلى الطرف الآخر من القاهرة، تتنازل هذه الأحياء عن طابعها التقليدى الذى عاشت فى إطاره سنين عديدة تحت وطأة التحديث والتغيرات الحضرية التى عرفتها القاهرة آنذاك.
وفيما يتعلق بالتاريخ المصرى المعاصر يقدم لنا محفوظ فى الجزء الثانى من ثلاثيته «قصر الشوق» شواهد فكرية مهمة حول الضجة التى صاحبت استقبال مصر لنظرية التطور لدارون، هذه النظرية التى هزت بشدة أجيال الشباب آنذاك – متمثلة فى كمال عبدالجواد – وعصفت إلى حدٍ ما بتقاليد دينية راسخة فى ذهن وضمير المصرى. ويعبِر النقاش الحاد الذى دار بين كمال وأبيه السيد عبدالجواد حول تلك النظرية نموذجا طريفا فى هذا الشأن.
وأمكن لى الاستفادة من الثلاثية فى موضوعٍ آخر يحظى باهتماماته وهو تاريخ الأقباط الحديث والمعاصر. لعل أهم شخصية سياسية قبطية فى القرن العشرين هى شخصية مكرم عبيد السياسى البارز و«الابن البار» لسعد زغلول، حيث وُصِف مكرم دائما داخل حزب الوفد بأنه «المُجاهِد الكبير» وهى الألقاب التى ارتبطت بمكرم عبيد طيلة فترة بقائه فى الوفد كسكرتير عام للحزب، وفى رأينا أن خروج مكرم عبيد من الوفد بعد الأزمة الشهيرة بأزمة «الكتاب الأسود» 1942، وهو الكتاب الذى أثار فيه مكرم قضية الفساد والمحسوبية فى الوزارة الوفدية ما أدى إلى خروج مكرم من الوفد وتشكيله لحزب جديد تحت اسم «الكتلة الوفدية». وفى رأينا أن هذا الخروج كان من أهم أسباب تصدع العلاقة التقليدية والحميمة بين الوفد والأقباط.
ويرسم نجيب محفوظ ذلك بوضوح على لسان «رياض قلدس» المثقف القبطى العلمانى، بقوله بعد خروج مكرم من الوفد، وردا على ما وجهه إليه محدثه المسلم من أن مكرم ليس الأقباط، وأن الأقباط ليسوا مكرم. إنه شخص، أما البعد القومى للوفد فلن يذهب.
ليست هذه الدراسة إلا محاولة لبيان مدى أهمية الأدب من خلال حالة «الثلاثية» كمصدر تاريخى، وإبراز ما لدى المؤرخ من «فوبيا» فى الاستعانة بمثل هذه الأعمال كمصدر تاريخى. فهو – المؤرخ – بمنهجه التاريخى له من خبراتٍ سابقة فى التعامل مع مصادر متعددة، وغربلتها وبيان ما يمكن أن يستفيد منه، لكن المسألة تبقى أخيرا محل التجربة والخطأ حتى يستقر لدى المؤرخ – عبر تجاربٍ عديدة – ترحيب بالتعامل مع هذه المصادر الجديدة.

 

«أمام العرش».. الزعماء والثورات فى الميزان:
تعتبر «أمام العرش» من الروايات المختلفة التى كتبها نجيب محفوظ وصدرت فى عام 1983. ولن نتحدث هنا عن طبيعة الشكل الروائى لها، أو أهميتها الأدبية بين ما كتب محفوظ، وإنما تناولنا لها سيأخذ شكل آخر، ومن منظور الدراسات التاريخية.
استلهم محفوظ هنا نموذج محكمة العالم الآخر من الأساطير الفرعونية، حيث نصب من أوزوريس الإله وإيزيس الإلهة قضاة، يقوم كل زعيم مصرى ــ من مينا إلى السادات ــ بعرض أعماله عليهما، وتتم عملية المحاكمة قبل مرورهم إلى جنة الخلد. وهنا يظهر ولع محفوظ «القومى المصرى» بالحضارة المصرية القديمة، واعتباره إياها عمود الأساس.
وجاءت الرواية على نحوٍ مبتكر وأسلوب سلس وبسيط وأفكار عميقة واعية بتطور التاريخ المصرى عبر العصور. والرواية على هذا النحو تصلح فى الحقيقة لتكون مقررا على طلاب المدارس، ليفهموا تاريخهم من خلال رؤية عميقة وأسلوب سلس. ولن نقدم هنا تحليلا كاملا لـ«أمام العرش» وإنما سينصب اهتمامنا على التحليل النقدى الرائع الذى يقدمه محفوظ للثورات المصرية، مستخدما تعدد الأصوات فى الرواية لتقديم صورة مكتملة إلى حدٍ ما لإيجابيات وسلبيات تلك الثورات.
يبدأ محفوظ عرضه للثورات المصرية بالثورة المظلومة والمسكوت عنها كثيرا، الثورة التى قامت فى الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى. هذه الثورة التى أدى فشلها فى النهاية إلى كتابة تاريخها على يد أعدائها أو كما يقول أبنوم قائد الثورة:
«تجاهل التاريخ أسماءنا وأفعالنا، فهو تاريخ يدوُّنه الخاصة، ونحن من عامة الفلاحين والصناع والصيادين».


ويلعب هنا تحوت كاتب الآلهة دور الادعاء «النيابة»:
«هؤلاء هم رءوس الثورة قادوا الجماهير الغاضبة فى ثورة دموية مخربة، ثم حكموا البلاد عهدا طويلا.. ولم يتركوا وراءهم أثرا يدل عليهم إلا المعابد المهدمة والقبور المنهوبة والذكريات المرعبة».
ويأتى الصوت الملكى المحافظ الرافض لمبدأ الثورات على لسان الملك زوسر الذى يرى ضرورة الحفاظ على التقاليد المقدسة «ففرعون هو الإله المجسد، والصفوة نوابه... فكيف يحل مكان هؤلاء قوم من الفلاحين والصناع والصيادين».
ولكن أبنوم يوضح فى لهجة شعبية ثورية، وجهة نظر الثوار الذين عانوا منه: «لا حاكم يعدل، ولا قانون يسود، ولا رحمة تهبط». ويأخذ أبنوم الثائر على الكهنة استخدامهم الدين كأفيون للشعوب: «كلما قصدهم مظلوم طالبوه بالطاعة والصبر، ووعدوه بحسن الجزاء فى العالم الآخر».
ويرى أبنوم أن حكم الفلاحين قد أقام العدل فى البلاد، وأدى إلى الرواج الاقتصادى، وساعد على الحراك الاجتماعى بصعود أبناء الفلاحين إلى المناصب العليا. ويقدم هنا أبنوم مفهوما ثوريا ناسفا لتقاليد مصر القديمة: «كان شعارنا أن تربية فلاح خير من بناء معبد». وهكذا نجد أنفسنا بين يديّ أبو الماركسية قبل أن يولد ماركس بآلاف السنين.
ويعترف نجيب محفوظ ــ على الرغم من طابعه المحافظ ــ بحبه واحترامه لهذه الثورة على لسان إيزيس:
«أقر لهذا الابن ــ أبنوم ــ بأنه من أحكم أبنائى وأنبلهم، سعدتْ فى عهده بلادى سعادة لم تذقها من قبله ولا بعده، أما ما ارتُكِب من جرائم فى ثورته فلا تخلو الجماهير الثائرة من مجرمين يندسون فى جموعها إشباعا لنزواتهم».
وفى النهاية يبارك أوزوريس أبنوم ويدعونه إلى مكانه بين الخالدين.
وفى العصر الحديث يعقد محفوظ محاكمة جديدة للثورة العرابية متمثلة فى شخص أحمد عرابى. ويصف محفوظ «أحمد عرابى» عند دخوله إلى محكمة الآلهة: «دخل رجل مائل للطول والامتلاء ذو رزانة ووقار». ويعطى أوزوريس لعرابى الحرية التامة فى الدفاع عن نفسه حيث يقدم عرابى نفسه على أنه أول فلاح مصرى يصل إلى رتبة قائمقام فى الجيش، وأنه قاد الجند الوطنيون للثورة من أجل أن تكون مصر للمصريين.
وعلى لسان الملك خوفو يؤخذ على عرابى تحديه للسلطة الشرعية، وأن عرابى خاطب الخديو «بما لا يُخاطَب به الملوك». لكن محفوظ وعلى لسان الإله أوزوريس يرسِّخ مبدأ الديمقراطية والحكم للشعب قائلا: «تغير الزمان أيها الملك فلم يعد الملوك يحكمون نيابة عن الآلهة، ولكن بالمشاركة مع الشعوب».
ويشير محفوظ على لسان الفرعون والقائد الهمام تحتمس الثالث إلى اتهامٍ مهم يوجه دائما إلى عرابى وهو ضعف قدرته العسكرية. لكن عرابى يرد على ذلك الاتهام مدافعا: «بذلت أقصى ما لدى». ويستمر محفوظ فى العتاب على عرابى فيقول على لسان الحكيم بتاح حتب: «هكذا ثُرت من أجل حرية الشعب فجررت عليه احتلالا أجنبيا».
لكن الإله أوزوريس المُعبِّر هنا عن صوت الشعب المصرى، يوازن ما بين الإيجابيات والسلبيات لدى عرابى، ليباركه فى النهاية قائلا: «إنى أعتبرك نورا تألق فى الظلمات التى رانت على وطنك، وقد عوقبت فى حياتك بما يعتبر تكفيرا عن أخطائك فعسى أن تحظى بالبركات فى ساحة محكمتك».
الثورة الأخرى التى يقف صاحبها أمام محكمة الآلهة هى ثورة 1919، وزعيمها سعد زغلول. ومن البداية يبدو الإعجاب الكبير للآلهة أو لمحفوظ بهذه الثورة وبزعيمها. يتضح هذا من مساحة الكلمات المُعطاة لسعد زغلول لشرح موقفه أمام الآلهة. بل وينتقل الإعجاب من الآلهة إلى أجداد سعد من المصريين القدماء. إذ ينبرى أبنوم ــ صاحب أول ثورة فى تاريخ مصرــ مبتهجا ليعقد مقارنة بين ثورته وثورة 1919 قائلا: «لقد قمت أنا بأول ثورة شعبية فى نهاية الدولة القديمة وقمت أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف السنين فأنت أخى وخليفتى وحبيبى».
ولكن الملك خوفو الناقم على ثورة أبنوم، والمعجب بثورة 1919 يرفض المقارنة بين الثورتين قائلا: «ثمة فرق بين الثورتين يجب أن يُذكر، ثورة أبنوم كانت ثورة العامة على الصفوة، أما ثورة سعد زغلول فكانت ثورة شعب مصر كله».
وتتوالى عبارات الإعجاب والتمجيد لسعد زغلول من ملوك مصر القدامى، بشكلٍ لم تحظ به أى شخصية أخرى على مدى الرواية، إذ يصف الملك مينا سعد زغلول قائلا: «لقد وحدت المصريين كما وحدت أنا مملكتهم فأنت فى ذلك صديقى وخليفتى».
وعندما حاول بعض الحضور توجيه اتهامات إلى سعد زغلول بأنه قد تعاون مع الاحتلال قبل ثورة 1919، وتولى الوزارة آنذاك، وأنه لم ينضم إلى الحزب الوطنى، رمز الحركة الوطنية، ينبرى الإله أوزوريس ـ ربما لأول مرةٍ عبر الرواية ــ مدافعا عن سعد زغلول قائلا: «أعمال هذا الزعيم مدونة فى الكتاب لمن يريد أن يطلع عليها، ولكننا فى هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاضلة».
وترفض الإلهة الأم إيزيس أى اتهام يُوَجَّه لسعد، بل وتمنحه البركة قائلة: «لتبارك الآلهة هذا الابن العظيم البار، الذى برهن على أن شعب مصر قوة لا تقهر ولا تموت».
ويفند محفوظ على لسان أوزوريس مقولة شائعة، بأن جمال عبدالناصر هو أول حاكم مصرى منذ أيام الفراعنة، إذ ينحاز إلى زغلول واصفا إياه على لسان أوزوريس قائلا: «إنك أول مصرى يتولى الحكم منذ العهد الفرعونى، وتوليته بإرادة الشعب، من أجل هذا أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك حتى تنتهى المحاكمة، ثم تمضى بسلام».
الثورة الأخرى والزعيم الآخر فى ميزان المحكمة، هى ثورة 23 يوليو وزعيمها عبدالناصر. ويعطى محفوظ ــ أو الآلهة ــ مساحة عريضة من الكلمات لعبدالناصر لشرح موقفه وإنجازاته فى الثورة. وكما حظيَّ سعد بإعجاب ومحبة أجداده من الملوك العظام، ينبرى هنا رمسيس الثانى إعجابا وتقديرا بناصر: «كلانا يشعُّ عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده، وكلانا جعل من هزيمته نصرا فاق كل نصر».
ولكن هذا لا يمنع محفوظ ابن القومية المصرية من توجيه النقد إلى سياسة ناصر العربية، ويأتى النقد على لسان أبو مصر المركزية مينا موحِّد القطرين، وهو نقد ذو دلالة مهمة: «لكن اهتمامك بالوحدة العربية فاق اهتمامك بالوحدة المصرية فحتى اسم مصر الخالد شطبته بجرة قلم».
لكن نبرة الإعجاب تعود من جديد على لسان أبنوم الذى يقارن بين ثورته وثورة 23 يوليو قائلا: «اسمح لى أن أُحييِّك بوصفى أول ثائر من فقراء مصر، وأنى لأشهد لك بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل فى عهدٍ بعد عهدى كما نعموا فى عهدكم». مؤكدا فى ذلك على بُعد العدالة الاجتماعية الذى يعتبر الإنجاز الحقيقى لثورة يوليو.
لكن محفوظ وفى مكرٍ جميل يوجه النقد الشديد إلى الهزائم العسكرية التى مُنى بها ناصر، ويأتى ذلك على لسان القائد الهمام تحتمس الثالث: «إنك لم تكن قائدا ذا شأن بأى حالٍ من الأحوال». وهنا ينضم الكثيرون إلى تحتمس فى توجيه النقد لناصر، فيقول أمحتب: «كان واجبك أن تتجنب الحروب، وأن تكف عن استفزاز الدول الكبرى». وينضم الحكيم بتاح حتب أيضا إلى قائمة نُقاد ناصر فى هذا الشأن.
ولا يقتصر نقد ناصر على الزعماء الأقدمين فحسب، بل يشارك فى ذلك المحدثين؛ إذ يعتب سعد زغلول على ناصر أنه حاول محو اسمه من الوجود، وأنه اتهمه فى الميثاق بأنه اعتلى الموجة الثورية فى ثورة 1919. بل وتصل لغة العتاب مداها عندما يقول سعد مخاطبا ناصر: «دعنى أحدثك عن معنى الزعامة، الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية». ومع ذلك يرى سعد فى ثورة 23 يوليو استكمالا لثورة 1919، ولكن محفوظ وعلى لسان سعد زغلول يأخذ عليه غياب الديمقراطية: «كان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وأن تقيم حكما ديمقراطيا رشيدا، ولكن اندفاعك المضلل فى الطريق الاستبدادى هو المسئول عن جميع ما حل بحكمك من سلبيات ونكبات».
ويدافع ناصر عن ذلك بضرورة الفترة الانتقالية من أجل تحقيق المطالب الثورية. لكن الزعيم مصطفى النحاس ينضم إلى قائمة المنتقدين لغياب الديمقراطية، رافضا مقولة ناصر بالفترة الانتقالية، واصفا إياها بأنها حجة ديكتاتورية. ويصل نقد النحاس ــ أو فى الحقيقة محفوظ ــ مداه قائلا: «تنمية القرية المصرية أهم من تبنِّى ثورات العالم، إن تشجيع البحث العلمى أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية».
لكن محفوظ وبعد هذا الكمِّ من النقد الشديد يلجأ إلى نظرية الميزان فى المحاكمة الإلهية، والمقارنة بين الإيجابيات والسلبيات. إذ تنبرى إيزيس مدافعة عن ابنها ناصر؛ لأن «أعماله الجليلة تحتاج إلى جميع جدران المعابد لتسجيلها». لكنها تعترف فى الوقت نفسه بأنها لا تستطيع الدفاع عن أخطائه.
لكن أوزوريس ينتصر فى النهاية لناصر ويسمح له بالجلوس بين الخالدين.

خاتمة:
واضح عبر «أمام العرش» مدى عشق محفوظ للثورة الشعبية، ولذلك يعتبر محفوظ بحق ابنا لثورة 1919، وللقومية المصرية والفترة الليبرالية. وهو ما دفع محفوظ إلى توجيه اهتمام خاص إلى الثورة الشعبية بقيادة أبنوم فى مصر القديمة، على الرغم من تحفظ الكثير من المؤرخين على الطابع الفرنسى ــ البلشفى لهذه الثورة، وأنها لم تخلف لنا آثارا أو معابد، ولكن محفوظ يحترم مفهوم «الثورة الشعبية».
ويرى محفوظ أن هدف الثورة هو الديمقراطية «حكم الشعب» والعدالة الاجتماعية، لذلك كان نقده الشديد لغياب الديمقراطية فى ثورة يوليو. وواضح تماما أن زعماء الثورات الشعبية، أبنوم وزغلول يأتيان فى المرتبة الأولى، ثم يأتى بعد ذلك عرابى وناصر. لكن محفوظ مع كل ذلك يؤكد على مبدأ الاستمرارية فى تاريخ الثورات المصرية، لا سيما فى المشاهد التى يتناقش فيها أبنوم وسعد زغلول مع ناصر.
على أية حال «أمام العرش» حيلة روائية أراد من خلالها محفوظ ابن الليبرالية المصرية النظر فى تاريخ مصر، بحريةٍ تامة دون أن يُغضب أى تيار سياسى، فجميع الزعماء يذهبون فى النهاية إلى جنة الخلد.

اقرأ أيضًا:

ملف خاص.. الشروق تحيي ذكرى ميلاد أديب نوبل الـ107: نجيب محفوظ.. العائش فى الحقيقة

حسين حمودة يكتب في ذكرى نجيب محفوظ: الأستاذ.. ملامح قريبة

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك