نشر موقع عروبة 22 مقالا للكاتب يحيى اليحياوى، تناول فيه المقصود بـ«إنترنت الأشياء»، ذاكرا أمثلة عنه، وكيف أدت هذه التكنولوجيا إلى انتهاك خصوصية الأفراد والجماعات، وما هى السبل لتحصين أنفسنا.. نعرض من المقال ما يلى:
من الهواتف النقالة إلى الساعات اليدوية، ومن مساعدات الصوت إلى أجهزة التبريد، كل الأشياء المحيطة بنا أو المؤثثة لفضائنا العام والخاص، أضحت ذكية ومترابطة أشد ما يكون الترابط والارتباط.
خاصية الذكاء والترابط التى باتت تميز هذه الأشياء، هى التى تمنحها القدرة على التقاط كل المعطيات التى تفرزها هذه البيئة الرقمية، وتعمل على إرسالها لشبكة الإنترنت، من خلال بنية تحتية مكونة من تقنيات وتطبيقات وخوارزميات ونماذج فيزيائية ورياضية وما سواها. ما يُصطلح على تسميته بإنترنت الأشياء، هو هذه الصيغة المرِنة لمسلسل ربط الأشياء المادية بالإنترنت، وكذا الشبكة التى تقوم على العملية إياها فى الزمن والمكان.
إنترنت الأشياء يقوم إذن بوظيفة ربط كل العناصر المشكلة لمحيطنا اليومى، ثم استئصال المعطيات العابرة لهذا المحيط أو المقتنية لبنيته وبنيانه، ثم إرسالها للشبكة بصورة فورية، دون أدنى حاجة لتفاعل ما بين الإنسان والآلة، اللهم إلا فى جانب تصميم برمجيات هذه الأخيرة، أو وضع التوجيهات لالتقاط المعطيات المخزنة بها أو المقتنية لأجهزتها وبرمجياتها.
كل جهاز مرتبط بإنترنت الأشياء يحتوى، بناءً على ما سبق، على معطيات تخصّه. لكن خاصّية الارتباط تمنحه القدرة على التقاط معطيات أى جهاز آخر، ثم تقاسمها معه. هذه التفاعلات المرتكزة على ميزة الارتباط، هى التى من شأنها إفراز أحجام من المعطيات ضخمة، سرعان ما يتم تخزينها فى نظم سحابية بغرض تحليلها واستغلالها وتوفيرها للاستعمال الفعلى المباشر.
لندلل على ذلك بمثال مبسط. عندما يقترب شخص ما من مكان إقامته، وهو بداخل سيارته «الذكية»، فإنّ هذه الأخيرة تبعث بمعلومات تواجده الجغرافى، لمنظومة مثبت حرارة الإقامة إيّاها. من خلال تحليل هذه المعطيات، تقوم المنظومة ذاتها، بتثبيت منسوب الحرارة الداخلية لكل غرفة من غرف المنزل حسب التوجيهات المحددة سلفًا. لا مكان هنا لأى تدخل بشرى يُذكر، إذ بات بالإمكان الاستعاضة عنه بآليات فى الذكاء الاصطناعى مزودة بنظام تعلم آلى «عميق».
هذا المثال هو غيض من فيض، إذ باتت كل الأجهزة المحيطة بنا، وهى بالمليارات، قابلة للارتباط بإنترنت الأشياء، ومن ثمة إفراز أحجام ضخمة من المعطيات، بالإمكان تحليلها واستغلالها وتوظيفها لغايات شتى. فالمنازل والسيارات وأجهزة التلفاز ونظم التدفئة باتت ذكية، والهواتف المحمولة باتت مصممة لاحتساب دقات القلب وضغط الدم وقياس مضخة الأنسولين، وهكذا.
لقد غزت التكنولوجيا الرقمية أدق تفاصيل حياتنا، وأضحت خصوصيات الأفراد والجماعات بالتالى، مجرّد معطيات وبتات فيزيائية ومعلومات مفصّلة عن هويتنا الواقعية والرقمية على حد سواء. فالمعطيات المحصل عليها من سيارة مرتبطة بإنترنت الأشياء، تنبئ مثلًا عن أنماط سلوكنا كسائقين، فتحدّد المتهور منا من المتزن، الهادئ بالمقود من العصبى المضطرب.
بالتالي، فلا شىء يضمن حقًا ألا تحول معطياتنا كسائقين، إلى شركات التأمين مثلًا، فتحللها وتدقّق فيها وتستنبط منها اختياراتها بجهة من تمنحه بوليصة التأمين ممن تجد من معطياته ما يدعوها لرفض منحها إيّاه. المعطيات نفسها قد يتم تسليمها للمصحات الخاصة، فتبنى عليها لترى فى جدوى قبول هذا المريض أو رفض استقبال ذاك. لا بل إنّ من المصحات من تقوم، بتنسيق مع شركات التأمين الصحى، بإجبار المتعاقدين معها على ارتداء لاقطات تقيس درجات توترهم وأنماط استهلاكهم وساعات نومهم وهكذا.
ينحصر الأمر بالمحصلة النهائية، بين مُصمّمى الأجهزة وصانعيها، أى شركات إنترنت الأشياء، وبين مقدّمى الخدمات وعارضيها للمستهلك. هذا الأخير يبدو محاصرًا بين عرض تكنولوجى يحسب عليه أنفاسه وحركاته، بمنزله وبعمله وبالفضاء العام، وبين مطلبه الطبيعى فى الحفاظ على مقومات حياته الخاصة من الاستغلال، أو من الاستهداف أو من المصادرة.
لو تسنى لنا الآن، أن نعاين مصادر التهديد التى تترتب عن انتشار إنترنت الأشياء، على الحياة الخاصّة، لاستوقفتنا ثلاثة مستويات كبرى:
أولا: مستوى الرصد، وهو نقطة التقاء الجهاز (ساعة أو منزل أو سيارة) مع العالم المادى. هذا المستوى هو المصدر الأول للمعطيات التى سرعان ما تلتقط وتخزن فى أفق التحليل والاستغلال.
ثانيا: مستوى الشبكة، ويتعلق الأمر بمليارات المعطيات الشخصية التى يفرزها الناس، أو يتركونها خلفهم عقب استعمالهم لوسائل النقل المختلفة، البرية والبحرية والجوية وما سواها.
ثالثا: مستوى التطبيقات والخدمات، والتى يكون بمقدور المستعمل خلالها من التفاعل مع الأشياء المرتبطة.
إنّها كلها مستويات تحيل على أحجام من المعطيات، ضخمة ومتنوعة وغنية، لكن استغلالها من شأنه المس بالحياة الخاصة، وفى المدى المتوسط الإجهاز عليها تماما. لذا يبدو إعمال القانون بهذه الحالة ضروريًا. لكنه غير كاف. كل ما يستطيعه المرء هو واحد من أمرين: أقصى درجات الحيطة، أو فك الارتباط مع إنترنت الأشياء.