قبل أيام قليلة، أعلنت أحزاب المسيحى الديمقراطى والاشتراكى الديمقراطى والمسيحى الاجتماعى اتفاقها على تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة فى ألمانيا. كانت الانتخابات البرلمانية المبكرة التى أجريت فى فبراير ٢٠٢٥ بعد انهيار ائتلاف الاشتراكيين الديمقراطيين وحزبى الخضر والليبراليين الأحرار قد أسفرت عن حصول المسيحيين الديمقراطيين، ومعهم حليفهم البافارى المسيحى الاجتماعى على ما يقرب من ٢٩ بالمائة من أصوات الناخبات والناخبين، وهو ما ترجم إلى كتلة مكونة من ٢٠٨ مقاعد فى البرلمان الاتحادى الجديد المكون من ٦٣٠ مقعدًا (وفقًا لتعديلات أدخلتها مؤخرًا المحكمة الدستورية الاتحادية على قوانين الانتخابات ورتبت تقليص عدد المقاعد من ٧٣٣ فى برلمان ٢٠٢١-٢٠٢٥ إلى ٦٣٠ فى البرلمان الجديد). أما الحزب الاشتراكى الديمقراطى، فلم يتمكن من الحصول سوى على ١٦ بالمائة من الأصوات وتراجع عدد مقاعده البرلمانية إلى ١٢٠ فقط بعد أن كان الحزب الأكبر فى البرلمان الماضى. وبمجموع مقاعد الأحزاب الثلاثة، ٣٢٨، ضمنت الحكومة الائتلافية الجديدة، والتى سيترأسها كمستشار فريدريش ميرتس (رئيس الحزب المسيحى الديمقراطى) الاستحواذ على أغلبية برلمانية مريحة (عدد المقاعد المطلوب للأغلبية البسيطة أى خمسين بالمائة زائد واحد هو ٣١٦) فى ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة تمر بها ألمانيا.
انتخابات فبراير الماضى المبكرة لم تضف فقط إلى المسيحيين الديمقراطيين والاجتماعيين أو تخصم من نصيب الاشتراكى الديمقراطى وحسب، بل مكنت حزب اليمين المتطرف، حزب البديل لألمانيا، من أن يصبح صاحب ثانى أكبر كتلة برلمانية بعدد مقاعد يتجاوز ١٥٠ بمقعدين (١٥٢). فقد فاز الحزب الذى تقوده السيدة أليس فايدل، وهى لا تختلف فى أولوياتها السياسية المستندة إلى معاداة الأشخاص المهاجرين والحد من الهجرة واللجوء، وأجندتها الاقتصادية غير الواضحة، ونظرتها السلبية إلى الاتحاد الأوروبى، ورفضها تسليح أوكرانيا ومواصلة الصراع مع روسيا، كثيرًا عن مارين لوبان زعيمة حزب التجمع الوطنى فى فرنسا، فاز بما يقرب من ٢١ بالمائة من الأصوات الانتخابية مضاعفًا نسبته مقارنة بانتخابات ٢٠٢١ ومضاعفًا من ثم عدد مقاعده فى البرلمان.
•••
بالصعود غير المسبوق منذ نهاية الحكم النازى فى ١٩٤٥ لليمين المتطرف فى البرلمان الاتحادى الألمانى، لم يعد حزب البديل لألمانيا قوة سياسية هامشية تستطيع أحزاب يمين الوسط كالمسيحى الديمقراطى والاجتماعى وأحزاب يسار الوسط كالاشتراكى الديمقراطى والأحزاب الليبرالية واليسارية الأخرى حصارها برلمانيا بالامتناع عن التعامل معها وتجاهلها فيما خص يوميات العمل التشريعى والرقابى. بل تحول اليمين المتطرف فى البرلمان الجديد ٢٠٢٥ إلى «زعيم المعارضة» فى مواجهة ائتلاف المسيحيين والاشتراكيين الديمقراطيين الحاكم والطرف الذى سيحضر من الآن وصاعدًا فى كافة اللجان البرلمانية وسيحصل على ثانى أكبر مخصصات مؤسسية ومالية تضمنها القوانين الألمانية لأحزاب البرلمان (متقدمًا عليه فقط حزب فريدريش ميرتس المسيحى الديمقراطى).
دون زعيم المعارضة البرلمانية، حزب البديل لألمانيا، يأتى فى خانات المعارضة حزب الخضر الذى كان شريكا فى الحكومة الائتلافية السابقة وأفقدته مساوماته المتكررة على قضايا السياسات البيئية والاقتصاد الأخضر ومواقفه المؤيدة لتسليح أوكرانيا ومواصلة الصراع العسكرى مع روسيا الكثير من المصداقية والتأييد بين الناخبات والناخبين الذين دوما ما ربطوا بين الخضر وبين التعامل الجاد مع التغير المناخى وبينهم وبين رفض التورط فى الحروب والنزاعات المسلحة، وهو كحزب خرجوا من عباءة حركة السلام الألمانية فى ثمانينيات القرن العشرين. فى انتخابات ٢٠٢٥، لم يحصل حزب الخضر سوى على دعم ما يقرب من ١٢ بالمائة من الناخبات والناخبين المشاركين، وتناقص عدد مقاعده فى البرلمان الجديد إلى ٨٥ مقعدا.
أما مفاجأة المعارضة، فجسدها حزب اليسار الذى شهد انشقاقا حادا فى برلمان ٢٠٢١-٢٠٢٥ (انشقاق مجموعة السياسية سارا فاجنكنشت) وراجت بشأنه قبل الانتخابات بورصة توقعات سلبية استبعدته من تشكيل البرلمان الجديد. غير أن اليسار، وبحضوره المؤثر تقليديًا فى ولايات شرق ألمانيا أكثر من نظيراتها الغربية وبرموزه المعروفة إعلاميًا (كجريجور جيزى وديتمار بارتش وبودو راملو)، تمكن من إقناع ما يقرب من ٩ بالمائة من الناخبات والناخبين من التصويت لقوائمه وحصد من ثم ٦٤ من مقاعد البرلمان الجديد.
•••
على الرغم من أن مقاعد حزب الخضر وحزب اليسار ستعطى للمعارضة فى برلمان ٢٠٢٥ شيئًا من المحتوى السياسى المتجاوز لليمين المتطرف وشيئًا من التنوع فى القيادات يحول دون اقتصار المعارضة على أعضاء حزب البديل لألمانيا الذين لا دراية للكثير منهم بأدوات وأساليب العمل التشريعى والرقابى وتورط بعضهم فى أنشطة سياسية أثارت جدلًا واسعًا ودفعت جهاز الاستخبارات الداخلى (اسمه الحرفى هو جهاز حماية الدستور) لمراقبتهم، على الرغم من ذلك ينبغى توقع أن تسفر زعامة البديل لألمانيا للمعارضة البرلمانية عن حصده للمزيد من التأييد الشعبى عبر بوابة المحتجين المحتملين على سياسات الائتلاف الحاكم الجديد من المسيحيين والاشتراكيين الديمقراطيين. بل أن استطلاعات الرأى العام التى أجريت فى ألمانيا خلال الأسابيع القليلة التى تلت انتخابات فبراير الماضى أظهرت مواصلة اليمين المتطرف لتقدمه واقترابه الحثيث من أرقام الحزب المسيحى الديمقراطى، حزب المستشار ميرتس الذى سيقود الحكومة الائتلافية الجديدة ما أن يلتئم البرلمان فى ٦ مايو ٢٠٢٥.
•••
ليست هذه بالوضعية السياسية السهلة لألمانيا التى لا يخلو يوم فى فضائها العام من إشارة ما إلى الماضى النازى وجرائمه (فى فيلم سينمائى أو مسرحية درامية أو قراءة أدبية أو معرض فنى أو مقالة صحفية أو مداخلة فى قناة إعلامية تقليدية أو حديثة)، ولا يمر بها تصريح لمسئول سياسى ما دون اختبار لعلاقته المحتملة للتنازع مع اليمين المتطرف الذى يراه البعض قوة نازية جديدة تهدد النظام الديمقراطى ويصنفه البعض الآخر كحزب شعبوى لا يختلف عن كثير الأحزاب الأوروبية فى أقصى اليمين التى لا شأن لها سوى معاداة الأشخاص المهاجرين والهجوم على الحدود المفتوحة (أو التى كانت مفتوحة) وحريات السفر والعمل والدراسة والحياة بين دول القارة.
ليست هذه بالوضعية السياسية السهلة، والمجتمع الألمانى يعانى من تراجعات اقتصادية بفعل ركود وانكماش الاقتصاد الأوروبى الأكبر خلال العامين الماضيين، ويواجه أزمات اجتماعية حادة تعبر عنها المؤشرات المتصاعدة للعنف الممارس من قبل مجموعات نازية وحركات يسارية راديكالية وكذلك من قبل عناصر متطرفة وإجرامية تحضر كأقلية محدودة للغاية بين صفوف المهاجرين واللاجئين وطالبى اللجوء.
وفى ظل أحوال أوروبا الراهنة (والحرب الروسية-الأوكرانية لم تتوقف بعد) والتوترات العالمية فى مجالات التجارة والاقتصاد والسياسة (حروب الرسوم الجمركية وحروب التكنولوجيا)، سيكون استقرار ألمانيا بفعل أداء متماسك لحكومتها الائتلافية الجديدة، وانتقال اقتصادها من الركود والانكماش إلى نمو ولو محدود ومع تجديدها لجهود الوساطة الدبلوماسية لإنهاء الحرب فى أوكرانيا، حافزًا على إبعاد أوروبا عن الصراعات وعلى تقليل مناسيب التوتر فى العالم.
والعكس بالعكس.