x قد يعجبك أيضا

ألمانيا تنتقد.. ليس لأنها نسيت المحرقة.. بل تحديدًا لأنها تتذكرها

الأربعاء 13 أغسطس 2025 - 7:15 م

«٨٠ عامًا على المحرقة وألمانيا تدعم النازيين»، بهذا غرّد وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، عقب تصريح وزير الخارجية الألمانى يوهان فادفول بأن ألمانيا تنوى فتح نقاشات بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية.

أبدى كثيرون تحفّظهم عن تصريح بن غفير الفجّ، الذى يربط بين دعم حقوق الفلسطينيين ودعم النازيين، لكنه يوضح إلى أىِّ مدى يُعتبر هذا الموضوع مشحونًا عاطفيًا فى إسرائيل.

فخلف السخرية والغضب، يختبئ خوف حقيقى من نشوء تآكل، ولو بالتدريج، فى المبدأ القائل إن أمن إسرائيل هو جزء من الـStaatsräson، أى «منطق الدولة» فى ألمانيا. هذا الخوف يزداد الآن أيضًا، فى ضوء تصريح المستشار فريدريش ميرتس، بأن ألمانيا لن تزوّد إسرائيل بأسلحة يمكن أن تُستخدم فى قطاع غزة. يوشك أن يمرّ عقدان منذ أن حددت المستشارة أنجيلا ميركل أمن إسرائيل كأحد المبادئ الأساسية فى هوية ألمانيا الوطنية، ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا المبدأ ركنًا ثابتًا فى السياسة الألمانية تجاه إسرائيل.

تتميز العلاقات بين إسرائيل وألمانيا، ليس فقط بمتانتها، بل أيضًا بكونها نمَت وسط دمار أخلاقى غير مسبوق. فعبارة «لن يتكرر ذلك قط» لم توجَّه إلى الألمان وحدهم، بل كانت بوصلة أخلاقية للمستقبل. وطوال أعوام كثيرة، لم تكتفِ ألمانيا بالتعاطف مع وجود دولة إسرائيل، بل رأت فى هذا الوجود جزءًا من تصحيحها لذاتها، لكن الواقع يتغيّر.

على مرّ السنين، عرضت الحكومات فى برلين موقفًا مبدئيًا موحدًا، يقوم على دعم غير مشروط لحق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها وأمنها، مع التمسك، فى الوقت نفسه، بفكرة الدولتين، كمفتاح لحل الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى. كان هذا الموقف يرمز إلى توازُن بين التزام ألمانيا التاريخى تجاه إسرائيل وبين تمسُّكها بالقيم الكونية للسلام وحقوق الإنسان والقانون الدولى، بصفتها أيضًا قوة فاعلة فى الاتحاد الأوروبى.

جرى الحفاظ على هذا التوازن، فى الأغلب، من دون الدخول فى مواجهة علنية مع القدس بشأن المبادئ الجوهرية لبرلين. ومع ذلك، فإن ألمانيا، التى شُكلت هويتها السياسية على أسس القانون الدولى والنظام الليبرالى ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تعتبر أن الاستيطان فى المناطق الفلسطينية خطوة تتعارض مع مبادئها، وهو موقف تعارضَ ويتعارض مع سياسات حكومات إسرائيل.

شكّلت هجمات السابع من أكتوبر نقطة اختبار، فعلى الفور، أوضح المستشار أولاف شولتس أن ألمانيا تقف إلى جانب إسرائيل، وبعد عشرة أيام فقط، زار البلد، معلنًا التضامن الألمانى وتعهّده بحماية حق إسرائيل فى الوجود وأمنها. واستُقبلت تصريحاته فى القدس كامتداد مباشر لتقليد ألمانى طويل من الدعم غير المشروط. لكن مع امتداد الحرب فى غزة، وسقوط عشرات الآلاف من القتلى، والدمار الهائل، والتقارير بشأن انهيار إنسانى، تصاعد الضغط الداخلى فى ألمانيا، وازدادت الأصوات الداعية إلى «تطبيع» العلاقات مع إسرائيل.

يقود اليسار الراديكالى، وممثلو المهاجرين المسلمين، والشباب التقدمى توجّهًا، فحواه: «كفى الشعور بالذنب، نعم للمسئولية الكونية». أمّا الجيل الأكبر سنًا، والتيار المركزى فى السياسة الألمانية، فما زال يعتبر أن فرادة المحرقة تفرض التزامًا استثنائيًا تجاه إسرائيل وأمنها. ومع ذلك، فإن الاعتراف المحتمل بدولة فلسطينية، بالنسبة إلى عدد كبير من الألمان، يشير إلى خطوة رمزية أُخرى، تتمثل فى إغلاق الحلقة التاريخية مع إسرائيل، على نحوٍ يقول: «لقد قدمنا ما يكفى لليهود، والآن، نصحح مظالم أُخرى». إن هذا المسار الصامت ينضج ببطء، وربما، يعيد تشكيل طبيعة العلاقات المميزة بين إسرائيل وألمانيا.

إن الجدل حاضر أيضًا على الساحة السياسية الألمانية: فالمستشار فريدريش ميرتس يحافظ على سياسة مُحافظة تعتبر أن أمن إسرائيل أحد المصالح الألمانية المركزية، لكنه لا يمتنع من توجيه انتقاد علنى لسلوكها فى غزة، بينما يطالب شركاؤه الائتلافيون من الحزب الاشتراكى ــ الديمقراطى وحزب الخضر بنهج أكثر تشددًا.

من المرجح أن تتابع القدس الرسائل الواردة من برلين بقلق. فالتوقع هو أن تحافظ ألمانيا على الطابع المميز للعلاقات، وأن تتجنب خطوات أحادية قد تزعزع استقرار المنطقة، أو تبعث برسالة خاطئة إلى أعداء إسرائيل، فى وقت ما زالت «حماس» تسيطر على غزة، وهناك إسرائيليون ما زالوا محتجزين كرهائن.

لكن من المهم الإدراك أن ألمانيا لا تفكر فى التراجع عن التزامها تجاه إسرائيل، بل تحاول تنفيذه بمسئولية ورؤيّة. ففى نظرها، الواجب التاريخى لا يمنح حصانة من النقد، بل بالعكس، يفرض عليها أن تسمع صوتًا أخلاقيًا، حتى عندما يكون الحديث عن شريك قريب.

إن العلاقات بين الدولتين لا تواجه قطيعة، لكنها تدخل فى مرحلة جديدة من الحذر المتبادل، وإعادة بلورة التوقعات، وربما حتى النضج. فالشراكة العميقة، وبشكل خاص تلك المتجذرة فى ذاكرة مؤلمة إلى هذا الحد، لا تُقاس فقط بلحظات التعاطف، بل أيضًا بقدرتها على استيعاب الخلافات.

سيكون الاعتراف المحتمل بدولة فلسطينية اختبارًا للعلاقات بين البلدين، على أمل أن تكون أسس هذه العلاقات، المبنية على قاعدة أخلاقية راسخة، قوية بما يكفى لتحمّل عبء الخلافات الراهنة، وعلى إسرائيل ومواطنيها الإصغاء إلى ألمانيا وحججها القيَمية، وأن يفهموا أن ليس كل اعتراض على سياسة الحكومة يُعتبر خيانة. أمّا ألمانيا، فستكون مطالَبة بالتصرف بالحساسية المطلوبة تجاه علاقة نشأت فى وسط نار التاريخ.

ألمانيا تتحدث، ليس لأنها نسيت، بل تحديدًا لأنها تتذكر.

 

إيلان مور
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة