أفتح شباكى حتى يبلغ أقصى اتساع له وتدخل منه أشعة الشمس. وسط ضجيج تأتى شظاياه من بعيد ورنين ضحكات متقطعة، يهمس لى صوتى الداخلى: «لا شىء سيرجع كما كان».. هذا الصوت الذى يبدو خشنا أحيانا أو قد يكون ضعيفا وفاترا، يصحبنا منذ نعومة أظفارنا. يطلق الطفل له العنان، فلا يغربل ما يدور فى رأسه ويجهر به أمام المَلأِ، لكن بمرور السنوات يتعلم أن يسكته أو على الأقل يتحكم فيه حتى لا يسمعه أحد سواه. ويحدث ذلك تدريجيا منذ سن الرابعة، وفقا لدراسات بعض المتخصصين. يصرخ هذا الصوت الداخلى مرات غاضبا: «كم كنت غبيا حين وثقت فى هؤلاء!»، أو يقول مشجعا فى مرات أخرى: «أحسنت، الأمور ستكون على ما يرام بسبب تصرفك».الصرخة الأولى التى يطلقها المولود فى إشارة لبداية حياة جديدة منفصلة عن الأم هى أيضا علامة على أن الرئة تعمل، فالصوت يسبق اللغة والكلام والأفكار، أى إنه وسيلة التواصل البدائية التى سينميها الرضيع فيما بعد: ينوع الأصوات للتعبير عن ما يحب وما يكره، ثم يبدأ الصغير فى تعلم بعض المفردات وتكوين جمل بسيطة، إلى ما غير ذلك حتى يساهم من حوله فى ترويض فطرته وردود أفعاله. على هذا النحو، يظل الصوت مؤثرا فهو يسبق النظر، ويعد أول موسيقى يعرفها البشر، إذ يستمع الجنين إلى صوت أمه وهو لا يزال فى الرحم، ويطمئن إليه ويهدأ. وصف صلاح جاهين هذه العلاقة وتطورها فى إحدى رباعياته، قائلا: «عينى رأت مولود على كتف أمه.. يصرخ تهنن فيه يصرخ تضمه.. يصرخ تقول يا بنى ما تنطق كلام.. دا اللى ميتكلمش يا كتر همه.. عجبى».• • •الهموم تتدافع وتتجاذب فى حياتنا ويتلون الصوت بحسب الظروف والمستجدات. تارة يصبح نشيطا متوهجا، وتارة مكبلا مخنوقا.. قد يكسره الحزن أو تنعشه البهجة، ويخرج عن السيطرة فيشى بما يحاول الوجه وصاحبه أن يخفياه. لذا حين يصاب الصوت بمكروه أو تتغير طبيعته يشعر الإنسان بفقدان جزء لا يتجزأ منه، وهو ما نسمعه يتكرر على ألسنة بعض مشاهير الغناء، على سبيل المثال، حين تتأثر أحبالهم الصوتية وحناجرهم إلى حدٍ يهدد مسيرتهم الفنية. حدث ذلك بالفعل مع مغنيات مثل آديل وشانيا توين وشير وجولى أندروز وهيلين سيجارا. فقدت هذه الأخيرة صوتها العام الماضى وهى على خشبة المسرح خلال حفلٍ أقيم فى كندا، وقال لها الأطباء إن عليها الاحتجاب وتقبل الأمر الواقع، حتى حصلت المعجزة على يد مختص فى نيويورك نصحتها به سيلين ديون. ولكن حين يكون من فقد صوته شخصا عاديا، الكثيرون يرددون أيضا أنهم يشعرون بالاختناق من دونه، ففى الحضارات القديمة مثل الصينية تعتبر منطقة الحلق والحنجرة هى مركز المشاعر والوجدان. هى منطقة التعبير عن الذات بحرية التى يسعى المتسلطون والمتشددون إلى السيطرة عليها كما فعل أعضاء حركة طالبان عندما حاولوا إسكات حناجر النساء ومنعهن من الغناء وإلقاء الشعر. وحين تصيب الصوت بحة بسبب التهاب عارض أو مشكلة مزمنة نأخذ وقتا طويلا حتى نتأقلم ونعتاد هذا الصوت الجديد الأجش، فهو لا يشبه صورتنا عن أنفسنا ولا يمثل هويتنا. إحساس غريب بالطبع ألا تجد الصوت نفسه الذى كبر معك ولازمك طيلة سنوات حياتك، فلدينا جميعا ما يسمى بـ«الأنا الصوتية»، هذه البصمة التى لا تشبه أحدا ولا تتكرر، مثلها مثل بصمة العين والإصبع.• • •مجموعة السمات الفريدة التى تميز صوت فرد معين عن غيره، والتى تشمل الترددات والنبرة والسرعة والإيقاع، صارت تستخدم فى الآونة الأخيرة فى العديد من تطبيقات المصارف والهواتف الذكية ومراكز الاتصال للتحقق من هوية الشخص بما لا يدع مجالا للشك. تطورت الخوارزميات لتصبح قادرة على التعامل مع كمية أكبر من البيانات وتحليلها بسرعة، ثم جاءت ابتكارات الذكاء الاصطناعى التى اعتمدت على الشبكات العصبية العميقة لتجعل تقنية التعرف على الصوت أكثر دقة. ومن هنا دخلت كلمات سحرية مثل «أليكسا» و«سيرى» فى قاموس حياتنا اليومية. «سيرى» وتعنى فى اللغة النرويجية «المرأة الجميلة التى تقودك إلى النصر» هو اسم المساعد الرقمى الذى أطلقته شركة «آبل» عام 2011، أما «أليكسا» فهو المساعد الرقمى المنزلى الذى سوقت له شركة «أمازون» تقريبا خلال الفترة نفسها، واستوحت اسمه على ما يبدو من مكتبة الإسكندرية القديمة.يجلس من يمتلك هذه السلالة الجديدة من أنظمة الإدراك الصوتى فيأمر الأول بأن يبحث له عن رقم الصديق الفلانى وعن معلومات حول فيلم معين، أو يستلقى على الفراش ويطلب من «أليكسا» أن تطفئ المصباح وتغلق الباب قبل النوم، فتطيعه على الفور لأنها تعرفت على صوته، وبالطبع لا تستجيب لأحد غيره.هناك بين الناس من يستمتعون بسهولة الحياة التى وفرتها التكنولوجيا الحديثة، وهناك من لا يعرف سوى الدمار الذى قد تتسبب فيه هذه التقنيات المذهلة.. يكفى أن يعطى أحدهم أمرا بفناء بلد ومن عليها فيتم ذلك فى لمح البصر مخلفا وراءه أصوات مظلومين لا نهاية لها ولا حصر. يرتفع الصراخ كما لو رجعنا إلى بداية الخليقة وقانون الغاب. وتختنق الكلمات فى الحناجر.
مقالات اليوم حسن المستكاوي أحاديث قرعة الدورى عماد الدين حسين النائمون فى شوارع وسط البلد أحمد عبدربه ترامب.. والاستقطاب الأمريكى محمد عبدالمنعم الشاذلي يوم الشهيد يوسف الحسن «أنا لست روبوتا» إيهاب الملاح «الليث».. فقيه مصر وإمامها محمود عبد الشكور تركيبة توماس السحرية! صحافة عربية غرف تخص الكُتاب
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك