x قد يعجبك أيضا

إسرائيل والذكاء الاصطناعى فى لعبة إعادة تشكيل العالم

الخميس 5 يونيو 2025 - 7:00 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب نبيه البرجى، تناول فيه الصراع العميق والمتشابك على مستقبل النظام العالمى، والذى يتجاوز حدود التنافس السياسى والعسكرى التقليدى، ليأخذ طابعًا وجوديًا وحضاريًا؛ حيث تتقاطع التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعى، والتاريخ، فى مشهد دولى تتخلله المخاوف من انفجارات كبرى ــ سياسية، نووية، أو فكرية ــ تعيد صياغة العالم من جديد.. نعرض من المقال ما يلى:
المشكلة لم تعد فى الصراع حول إدارة العالم. الصراع هو حول إعادة تشكيل العالم. عالمة الحاسوب الأمريكية آيانا هيوارد تدعونا إلى أن ننتظر بتوجس لحظة الزلزال، أى الانتقال من العالم إلى ما بعد العالم، وربما إلى ما بعد البشرية.
إذا إنهاء مهمة الدماغ البشرى بواسطة الدماغ البشرى. هنا جوهر الصراع بين الولايات المتحدة والصين. هيوارد لا تخفى هلعها من «ليلة التنين»؛ فى نظرها «أننا نعانى من نقص مروع فى الأساطير، وفى الآلام التى يصنعها التاريخ»؛ وإن كان الفيلسوف الأمريكى ليو شتراوس قد لاحظ «أن ما يجعلنا نختلف عن الآخرين هو أن منطقة اللاوعى فينا، لا تحتوى على أى أبواب مقفلة، بل هى مشرعة على كل أشكال الوعى».
التوضيح يأتى من الحاخام شمولى بوتيك (بوطيخ) الذى ظل لثلاث سنوات يحتل المرتبة الأولى بين الخمسين حاخاما فى الولايات المتحدة الأكثر تأثيرًا. رأى فى وجه ترامب وجه يهوه. بعدما بدت ابنته إيفانكا التى اعتنقت اليهودية ديانة زوجها جاريد كوشنر، كما لو أنها تتجول بالكعب العالى فى رأسه، وإلا لماذا كل ذلك التماهى فى لوثة الدم بينه وبين بنيامين نتنياهو؟
• • •
منذ بزوغ القرن حذر بول كيندى مؤلف كتاب «صعود وهبوط القوى العظمى» الرئيس جورج دبليو بوش من أن التزلج على الرمال فى الشرق الأوسط، هو كما التزلج على النيران. الرئيس الثالث والأربعون طرح، وبإيعاز من نائبه ديك تشينى، مشروع الشرق الأوسط الكبير. الخطوة الأولى لتنفيذ المشروع بدأت بغزو أفغانستان ليستعيد العديد من كبار الجنرالات قول الجنرال وليم ويستمورلند الذى شارك فى الحرب الفيتنامية «لكأنها رقصة الروك أند رول على أرصفة جهنم». الجنرال ديفيد بترايوس سأل من مدينة جلال أباد الأفغانية: »ألا يذكر الكتاب المقدس شيئا عما بعد جهنم؟».
بنيامين نتنياهو، باللغة الدونكيشوتية إياها، قال بتغيير الشرق الأوسط. السفير الأمريكى مايك هاكابى عقب على ذلك إيديولوجيا «التغيير بأبعاد توراتية». هنا ليس إعادة تركيب الخرائط فقط، بل إعادة صوغ الشخصية التاريخية، والشخصية الفلسفية للمنطقة. هذا ما حذر منه الفيلسوف اليهودى الأمريكى نورمان فالكنشتاين مستغربًا «أن يخرج الفوهرر الآخر من الكتاب المقدس»، لا من موسيقى ريتشارد فاجنر أو من فلسفة فريدريك نيتشه، كما هى حال أدولف هتلر.
صاحب «كيف صنع اليهود الهولوكوست؟» يرى أن السياسات الدموية لبنيامين نتنياهو تعنى شيئًا واحدًا، تحويل «أرض الميعاد إلى أوشفيتز أخرى»، سائلًا ما إذا كان الحاخامات يقرءون التوراة بعيون القردة، تماما كما كان يقول الفيلسوف اليهودى الهولندى باروخ سبينوزا فى القرن السابع عشر.
• • •
حتما نتنياهو لا يفهم ما هو الشرق الأوسط. وكنا قد استعدنا قول الجنرال ديفيد بترايوس لدى الخروج الفضائحى من أفغانستان إنه الخروج من «استراتيجية المستنقعات»، وهى الاستراتيجية التى أنتهجها بعض الرؤساء الأمريكيين، لا بخيال الأباطرة، وإنما بخيال الأفاعى. من هنا تحذيره من أى انزلاق نحو الحرب فى الشرق الأوسط، لأن ذلك يعنى السقوط فى فوهة البركان. دانيال شابيرو، السفير السابق فى تل أبيب، يعلق ساخرا «فى هذه الحال قد يقفل ترامب منتجعه الفاخر على ضفاف الكاريبى أو يحوله إلى مصحة للأمراض العقلية». اثنان داخل المتاهة: أحدهما غرق فى أوديسة الدم، ولا مجال البتة لكى يغسل يديْه. والثانى بسعيه إلى «إعادة أمريكا العظمى»، إنما يصنع «الصين العظمى». هكذا التشكيك فى قدرة أمريكا على قيادة العالم. كذلك التشكيك فى خلاص إسرائيل من تداعيات الإبادة الممنهجة للفلسطينيين.
لكننا الآن أمام الذكاء الاصطناعى. كبار الباحثين المختصين فى هذا المجال يطرحون أسئلة مروعة (ربما شديدة الواقعية). ماذا إذا ما تمكن الصينيون من اختراق رأس دونالد ترامب؟ أو ماذا لو تمكن الأمريكيون من إزالة سور الصين العظيم؟ هذه أقل الأسئلة تعقيدًا وأدناها هولًا. العالم الكندى جوفرى هينتون دعا قادة الدول التى دخلت فى عالم ما بعد التكنولوجيا إلى وقف أى إيقاع جنونى للذكاء الاصطناعى، مثلما أوقفوا الإيقاع الجنونى للاستنساخ الذى بلغ حده الأقصى باستنساخ النعجة دوللى، تفاديا للحظة التى تفضى إلى خراب البشرية، بل وإلى خراب الحياة نفسها.

• • •
هينتون يرى ضرورة عقد قمة لوضع ميثاق دولى يحدد نطاق عمل الذكاء الاصطناعى، كما يكرس «الآليات الفلسفية والعملية والأخلاقية» للحيلولة دون انفجار فوضى قد تفضى إلى انفجار الكرة الأرضية. وهو ينطلق فى موقفه هذا من كون الأمريكيين والصينيين الذين لا بد أنهم بدأوا بطريقة أو بأخرى الصراع حول إدارة القرن، والقرون المقبلة، يولون الذكاء الاصطناعى أولوية قصوى، حتى فى الجانب العسكرى من ذلك الصراع. النتيجة أى من هاتين القوتين ستتفوق على الأخرى فى هلاك البشرية؟
ما يبعث على الذعر هنا أن الإسرائيليين ممن تتحكم برءوسهم تلك الأيديولوجيا المجنونة فى صناعة السياسات، باتوا يعتبرون أن بقاءهم فى المنطقة لم يعد يعتمد على الترسانة النووية فحسب (أى على ثقافة الاجتثاث). الذكاء الاصطناعى يمكن أن يأتى بنتائج مذهلة على الأرض. غزة تبدو المثال الصارخ على إلى أين يمكن أن تصل الهمجية بمن يعتبرون أن يهوه اختصهم بذلك النوع من العبقرية التى لا تعرفها الجماعات الأخرى (إسحق دويتشر فى كتابه «اليهودى واللا يهودى»).
• • •
من سنوات طويلة قال البريطانى ديزموند ستيوارت «من يكتب عن الشرق الأوسط كمن يكتب على بوابة الغيب». الآن نحن أمام واقع يتعدى الواقع. الكل فى حالة هذيان.. بارانويا القرن؟ أمريكا، إسرائيل، إيران، تركيا (وماذا عن روسيا والصين؟) وإن لاحظ رئيس الوزراء الفرنسى السابق دومينيك دو فيبلبان «حين يكون هناك رجل مثل دونالد ترامب على رأس الكرة الأرضية، لا بد من أن تدخل البشرية فى المتاهة». ثمة دول عربية تحاول بصعوبة إعادة المنطقة إلى حالة الوعى، وعدم البقاء فى اللاوعى. خوف من تلك الغيوم الملبدة التى تشبه تلك «الليلة الليلاء» التى انتهتْ باندلاع الحرب العالمية الثانية.
إبان الحرب على لبنان، اشتكى كثيرون من إيران «التى خذلتنا»، باعتبار أن لعبة المصالح هى لعبة المصالح. المعلومات تؤكد أن القيادة الإيرانية التى كانت وراء تفجير «حرب الإسناد»، ولأغراض تكتيكية، حالت دون ضرب المنشآت الحيوية الإسرائيلية، وبطبيعة الحال القواعد الجوية، وصولا إلى مفاعل ديمونا فى النقب، بعدما نقلت جهات أوروبية رفيعة المستوى رسالة شديدة الوضوح إلى آيات الله عنوانها: «إذا أردتم أن تبقى رءوسكم فى مكانها».. فالمسألة هنا لا تتعلق بضربة نووية واحدة، وإنما بسلسلة من الضربات التى تعيد إيران إلى ما قبل التاريخ. آنذاك سأل المعلق الأمريكى من أصل هندى فريد زكريا، ما إذا كان هدف رئيس الحكومة الإسرائيلية تغيير الشرق الأوسط أم إزالة الشرق الأوسط؟
• • •
هل حقا إن دونالد ترامب، الذى لطالما وصف بالرئيس الأكثر نرجسية والأكثر جنونا فى التاريخ الأمريكى، يتعامل بعقلانية مع الشرق الأوسط؟ الرئيس الأمريكى يعلم بدقة كيف تلعب القنبلة النووية وبخلفية توراتية فى رأس نتنياهو. لا شك أنه يستخدمه لأغراض تكتيكية أو استراتيجية، ويتماهى معه فى الكثير من الحالات؛ ولكن بعيدًا من الحالة النووية، وإن كان قد انتزع منه الملف الإيرانى؛ وغداة الصاروخ اليمنى على مطار بن جوريون، عقد تسوية مع الحوثيين من دون إبلاغه مسبقًا، المفاوضات الأمريكية ــ الإيرانية شغالة. كل نقاط القوة وكل نقاط الضعف على الطاولة. ما يصدر فى التعليقات الأمريكية أن الإيرانيين الذين فقدوا كل أوراقهم الجيوسياسية، وإلى حد الانكفاء الكلى عن ضفاف المتوسط، وهو الحلم الإمبراطورى القديم، يمكن أن يذهبوا بعيدًا فى التفاهم مع ستيفن ويتكوف بعدما أكد لهم أنه يدخل إلى ردهة المفاوضات برأسه الأمريكى، لا بأى رأس آخر.
فى التعليقات إياها «نقطة التقاطع بين الضياع الأمريكى والضياع الإيرانى فى الشرق الأوسط» إلى حد الحديث عن انقلاب براجماتى فى العقل السياسى الإيرانى. سفير إيرانى قال لنا إن العلاقات بين الرياض وطهران «تمضى بإيقاع رائع». هل هو الشرق الأوسط الجديد، ولكن برؤية جديدة بعيدة من أثقال التاريخ ومن أثقال الإيديولوجيا؟ لا تزال هناك غيوم كثيرة فى الأفق، ولا بد من تبديدها كى نبقى فى إطار إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد مللنا من الأحداث المكفهرة والوجوه المكفهرة. الكثير يقال الآن عن أن الدخان الأبيض لا يتصاعد من مدخنة كنيسة سيستين فى الفاتيكان فقط. ثمة مكان آخر إذا ما تصاعد منه الدخان الأبيض، نكون أمام مشهد شرق أوسطى آخر.

النص الأصلى

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة