الذين عاشوا ألف عام! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 10:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الذين عاشوا ألف عام!

نشر فى : السبت 30 ديسمبر 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 30 ديسمبر 2023 - 8:00 م
أكرر دوما عبارة أومن بها إيمانا كبيرا هى أن القراءة لا تخيف، ولكن عدم القراءة هو الأمر المرعب، فمهما كانت الأفكار صادمة أو غريبة أو غير تقليدية، فإنها تحرك العقل، وتعلم الحوار، وتدفع إلى التأمل، أما الجهل، والهروب من الأفكار، أو الخوف منها، فإنه يصيب المرء بالجمود، ويدفع إلى التبلد والتحجر.
وكم أسعدنى أن يصدر هذا الكتاب الضخم فى أكثر من 750 صفحة عن (ديوان) للنشر، لمؤلفه جلال الشايب، حاملا سيرة وأفكار تسعة من كبار أهل الفكر والفلسفة والرواية والعلم الغربيين، فى مجلد واحد مدهش، يستوفى عالم كل واحد، وأبرز مؤلفاته، ويشرح أفكاره ببساطة ويسر، ويمنح القارئ طوفانا من المصادر والمراجع عنهم.
السفر الكبير، الذى يمكن وضعه بين أفضل إصدارات 2023، يحمل عنوانا دالا هو «رجال عاشوا ألف عام»، تعبيرا عن امتداد تأثير هؤلاء بأفكارهم، أخذا وردا، وتسليما وجدلا، والشخصيات التسعة هم: جون سيتوارت مل، وتشارلز دارون، وكارل ماركس، وفيودور ديستويفسكى، وليف تولستوى، وفريدريش نيتشه، وسيجموند فرويد، وبرتراند راسل، وألبرت أينشتاين.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التى يكتب عن كل هؤلاء، فإن وضع هذه الشخصيات معا فى كتاب واحد، وبهذه المعلومات والدراسات المعمقة، يجعل القارئ أمام صورة متكاملة تقريبا لأبرز الأفكار التى شكلت التحولات الأساسية فى الحضارة الغربية والإنسانية، ويصنع علاقات بين تلك الاجتهادات المفصلية، تؤكد على حرية التفكير والنشر، وأهمية الجدل والنظرة النقدية.
قد يبدو لأول وهلة أنه لا توجد صلة بين عالم وروائى وفيلسوف، عاش كل واحد منهم فى بلد مختلفة، أو فى زمن مغاير، ولكنك لو تأملت قليلا لأدركت أنه لولا النظرة النقدية، والحرية النسبية التى توفرت لهم بنشر آرائهم، ومناقشتها، لما كان لهؤلاء أن يغيروا شيئا.
وليس المقصود أن يوافق الناس على آراء هؤلاء، ولكن أن يفكروا فيها، ويناقشوها، وأن ينشأ ما يسمى «بالجدل الحر والخلاق»، وليس «الجدل العقيم أو الأحمق»، وليس صحيحا أن هذه الآراء الثورية أو المختلفة قد وجدت قبولا أو تسليما كاملا، لا فى عصرها، ولا حتى اليوم، ولكنها أشعلت جدلا وحوارا، وحققت تأثيرا مستمرا، وغيرت نظرتنا إلى العالم، وإلى أنفسنا.
هنا القيمة الأساسية للفكر المختلف، وهذا ما توضحه سير هؤلاء الكبار، مهما اتفقت أو اختلفت معهم، فالشىء المؤكد أنك لن ترى الأمور مثلما كانت من قبل، وستعمل آلة العقل بنشاط، وربما ستجد أيضا فى حياة كل واحد منهم، وفى سيرته وكفاحه وشجاعته فى الدفاع عن أفكاره، نموذجا فريدا للبحث والاجتهاد.
هؤلاء لم يفكروا نيابة عنا، ولكنهم طلبوا أن نشاركهم التفكير فيما يعتقدون، ومن المستحيل منع فكرة أو رأى، فجميع الشخصيات التى تضمنها الكتاب ماتوا منذ سنوات، ولكن أفكارهم ما زالت حاضرة ومؤثرة، وحتى لو تجاوزتها أفكار أخرى، فقد صاروا جزءا من تاريخ الفكر الإنسانى، لا يمكن أن تفهم الأفكار الحالية، اتفاقا أو اختلافا، إلا بالعودة إلى هؤلاء المفكرين.
وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التى أقرأ فيها عن كل هذه الشخصيات، بل إننى شاهدت أفلاما عنهم، فإننى وجدت الجديد فى الدراسات الشيقة، التى كتبها جلال الشايب بوعى وفهم، فما أسهل أن يتم رص معلومات سطحية عن كل شخص، دون وضعه فى سياق عصره وزمنه، ودون الإشارة إلى طبيعة شخصيته بكل تناقضاتها، ودون ربط الشخصية بالأفكار السابقة عليها، أو اللاحقة لها، ودون إظهار قيمة الثورة الذى أحدثتها.
ولكن الكتاب يمتلك عمقا وتماسكا جديرا بالإعجاب، لا تفسير له إلا بأن مؤلفه قرأ واستوعب وهضم أولا، ثم كتب وسرد محللا ومفسرا، كما أنه يمتلك شغفا معرفيا، وصبرا جميلا فى العمل الدءوب بحثا واستقصاء، ولديه منهج مهم جدير بالالتفات.
إنه يجمع بين دقة الدراسة، ومتعة السرد القصصى، وأظن ذلك مصدره أن المؤلف مهندس وروائى فى نفس الوقت، وقبل كل ذلك هو قارئ ممتاز، يؤمن بحرية الفكر، وبقدرة الإنسان على التغيير.
من هذا المزيج خرج هذا العمل، الذى يمكن اعتباره تسعة كتب فى كتاب، فهناك توازن بين الأجزاء، وسلاسة فى الحكى، مع وضع مؤلفات كل شخصية كجزء أساسى من سيرتها، فلا يوجد فاصل بين هؤلاء الرجال وأفكارهم، والتحليل والتفكيك يشمل الاثنين معا، وهو منهج لا شك فى براعته ومناسبته، بحيث تتكون صورة كاملة عن العصر والشخصية والأفكار، فى سبيكة واحدة لا تنفصم عناصرها.
لن تقرأ سيرة فرويد، مثلا، منفصلة عن كتبه المهمة التى غيرت رؤية الإنسان لنفسه، وللجوانب اللا شعورية، لذلك ستجد تحليلا لكتب؛ مثل «تفسير الأحلام»، و«خمس حالات فى التحليل النفسى»، ولبعض كتبه الأخرى، مثل كتابه الشهير عن «ليوناردو دافينشى».
والأمر نفسه ستجده، مثلا، فى سيرة ديستويفسكى التى تمتزج مع مؤلفاته الكبرى، وخصوصا «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كارامازوف»، وفى سيرة نيتشه مثلا، حيث تجد تحليلا واقتباسات ونظرات عميقة حول كتبه الكبرى الشهيرة مثل «هكذا تحدث زرادشت».
كل كتاب هو جزء من السيرة، بل لعل مفهوم السيرة هو فى جوهره سيرة التطور الفكرى والأسلوبى والفلسفى، وهو أيضا «سيرة الفكرة» منذ أن كانت بذرة تؤرق كاتبها، وتدفعه إلى التأمل، والبحث، حتى يبلورها فى رواية، أو كتاب فى الفلسفة أو علم النفس، أو فى شكل معادلة رياضية، أو فى صورة نظرية علمية.
وفى كل مرحلة جدل ونقاش، مع الذات، قبل أن يكون مع الآخر، ومشوار طويل شاق، حتى تجد الفكرة طريقها للقبول، ويجد المفكر فرصة للاعتراف به.
فكرت، وتساءلت بعد القراءة: هذا ما قدمه مفكرو الغرب، فماذا قدمنا نحن فى القرون الأربعة الأخيرة؟
شكرا جلال الشايب على هذه المتعة الخالصة: متعة الأفكار، ومتعة سرد هذه الأفكار، وسرد معاناة أصحابها، وشجاعتهم فى التعبير عنها.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات