نَــــتَش - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 2:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نَــــتَش

نشر فى : الجمعة 29 سبتمبر 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 29 سبتمبر 2023 - 7:25 م
لي أعوامٌ طويلةٌ لم أحملْ بيدي أوراقَ الكوتشينة. كانت والعهدةُ على الأيامِ الخوالي؛ ضِمن الألعاب المُفضَّلة، ثم زاحمتها الحياةُ بمشاغلِها وهمومِها؛ فاختفت من المَشهد. ظهرت أمامي إذ فجأةً، أثناء البَحث في درجٍ قديم عن بعضِ الأغراضِ الضائعة، فتذكَّرت برؤيتِها ألعابَ الصغار الخَفيفة المُضحكة؛ استرجعت سعادةَ البَصرةِ والصَّدمة التي تنتاب أحد اللاعبين عندما ينتِش عفوًا الشايبَ وتدرك وجهَه علاماتُ الهزيمةِ الوشيكة. تذكَّرت أيضًا ألعابَ الكبار الأكثر حنكةً وتعقيدًا؛ تلك التي تعلمناها لاحقًا وباتت من طقوسِ اجتماع العائلةِ الكبيرة.
• • •
يأتي الفعلُ نَتَش في قواميس اللغة العربية بمعنى استخرَج أو جَذب؛ نَتشَ شعرَه تساوي نَتَفه، ونَتشَ اللحمَ أيّ التقمَ منه قطعًا، وإذا ضربَ واحد الآخر ضربةً سريعة قيل أيضًا إنه نتشَه. الفاعلُ ناتشٌ والمَفعول به مَنتوش، والنتْش بتسكين التاء هو المَصدر، أما النتَّاش بتشديد التاء؛ فهو ذاك الذي يرمي الآخرين بكلامِه دون أن يَحسبَ له أو يتأكد مِن مُحتواه، وعادة ما يحمل قولُه المُبالغة والمُغالاة، ويفقد الناسُ ثقتَهم في خَبَره.
• • •
اعتدت سماعَ عبارةِ "انتش واجر" كلَّما عاد الحديثُ بأصدقاءٍ أكبرَ عمرًا إلى الوراء. يقولها أحدهم في وَصفِ حقبةِ السبعينيات، مُعبرًا عن التغيُّر الذي حَدَث مذ ذاك الحين في كثيرِ المَفاهيم، وانعكس على أخلاقياتِ المُجتمع بأسرِه؛ فراح أفراده يقتنصون فُرصَ الإثراءِ الفوريّ ويَسطون على ما لاحَ أمامَهم منها، ويختطفون ما سنح من مَكاسِب؛ دون أن يعنوا بالتفكير في مَبادئ أو قِيم. يُوحي النتشُ هنا بعدمِ الأحقّية، أما الجَّري فيُدلل على أن ثمَّة عاقبةً؛ لكن هذه وتلك لا تُهمَّان؛ بل هو التمَكُّن من الفِرار.
• • •
يحتاج الثوبُ ما أصابه نتشٌ إلى رَتقٍ عاجل؛ وإلا تحول إلى ثُقبٍ يصعبُ لاحقًا تداركه وإصلاحُه. على مرّ الأزمانِ، تكفَّلت المَسامير الصغيرةُ الناتئةُ من المَقاعدِ وبعضِ قطعِ الأثاث بدَور البطولةِ في نَتشِ الثياب. تقع الحادثةُ فيتولَّى الرافي التعامل معها؛ إذ هو الشَّخصُ الوحيد القادر على إعادةِ النَّسيج المُصاب لأصلِه، وقد كانت وظيفتُه مُزدهِرَةً؛ تحوز الاهتمامَ والتقدير، لا يستغنى عنها بيتٌ ولا يستهين بها شخصٌ. تراجع بريقُ المِهنةِ اليدَويةِ العريقةِ بمرور الوقت حتى أوشكَت على الانقراضِ، وواكبَ أفولُها رواجُ سوقِ الملابسِ الرَّخيصةِ التي غالبًا ما تكون مُستعمَلةً، إذ أصبح شراؤُها أسهلَ وربما أرخَص مِن رفوِ القديم؛ وإن ظلَّت جودتُه ومكانتُه أعظم.
• • •
ربما يباغت اللصُّ ضحيتَه دون أن تدريَ، لينتشَ حافظةَ النقود في خفَّة ومَهارة؛ فما إن تُصبح الغنيمةُ في يدِه حتى ينسلتُ كالزئبق ويُطلِق ساقيه للريح. النَّتش والنَّشل أفعالٌ قصيرةُ المدى؛ لا تستغرقُ وقتًا ولا تحتاجُ إلى تخطيطٍ مُطوَّل وتدبير؛ إنما لثباتٍ انفعاليّ تُنجَز من خلالِه المُهمَّة بغير أن يلفتَ القائمُ عليها الأنظار؛ فإن فشلَ وانتبه له الناس، تلقَّى وعده.
• • •
كثيرًا ما انغرسَت الأشواكُ في أصابعي أثناء اللعبِ وسط نباتاتِ الصبَّار. رغم دقَّتها وصِغَر حجمِها؛ كانت الشوْكةُ الواحدة قادرة دومًا على أن تُعطّل المَسير، وتصنعَ بمُفردها مشهدًا يَطغى على ما دونِه. يغدو ألمُها الخفيفُ مُزعجًا، ويتحوَّل نتشُها واستخراجُها إلى هدفٍ مُستعصي، وربما احتاج الأمر بَعض المرَّات إلى استخدامِ إبرة؛ تُضيف إلى الوَجع رهبةً لا تُنكَر. وسطَ التأوهاتِ تغادر الشَّوكةُ مكانَها؛ لكنَّ الوعدَ باتخاذ أسبابِ الحَيطةِ والحَذر يذهبُ في التوّ أدراجَ الرياح؛ فما مِن شيء يُضاهي فضولَ الطفلَ ويَصرفُه عن التعرف على ما يحيط به؛ لمسًا وتذوقًا واستنشاقًا. في الحقيقة؛ ما مِن شيءٍ يَجُبُّ رغبةَ الاستكشاف عندَ البشرِ وإن أدركوا العاقبة، وما من شيء قادر على حرمانهم لذةَ الاختبارِ والتجريب.
• • •
بعض الأحيان يقع مَوقفٌ تتصلَّب فيه الألسنةُ ويَحلُّ الصَّمتُ تامًا كاملًا؛ فإذا لم يَنتشْ أيُّ امرئٍ بكلمةٍ تكسر الحالَ الجامدة وتقطع حبلَ الوُجوم؛ نطقت الأعين بدلًا من الأفواه، تستَحثُّ المُجتمعين على المُبادرة ولو بكلمة. بعضُ الناسِ يفزعون من فكرةِ المُبادرة في ذاتها، لا يقومون أبدًا بالخطوة الأولى؛ بينما يغامر آخرون باتخاذِها، ويتقبلون النتيجةَ بصدر رَحب. يقول بيتُ الشِعر المَعروف: ينال اللذة كلُّ مُغامرٍ.. ويَموت بالحَسرةِ مَن يَخشى العواقبَ.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات