«تغريبة القافر».. بين ماء الحياة وصخرة الموت - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 4:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«تغريبة القافر».. بين ماء الحياة وصخرة الموت

نشر فى : السبت 29 يوليه 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 29 يوليه 2023 - 8:35 م
تنبع جاذبية هذه الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية للعام 2023 من الجمع بين بساطة السرد، وعمق المعنى والدلالة، والجمع بين ثنائيات عجيبة، مغلفة بمزيج من الواقعى والأسطورى.
أتحدث بالطبع عن رواية «تغريبة القافر»، لمؤلفها الروائى العمانى زهران القاسمى، والصادرة فى طبعتها المصرية عن دار ميسكليانى ودار صفصافة، حيث يبدو ساردها كما لو كان يحكى لأهل قريته، عن سيرة بشر وأماكن، فى سنوات غير محددة الزمن، ولكنه عالم ريفى يعتمد على المطر، وعلى الأفلاج (قنوات المياه)، ويجمع بين الرعى والزراعة، تحيط به الجبال والصحراء، وتتقلب أحواله بين الرخاء والجدب.
نحن فى الغالب فى عمان القديمة قبل العام 1970، إذ لا أثر للمدنية الحديثة، والسارد حكاء يستطرد ويعيد أحيانا، ويستخدم دوما طريقة طرح الأسئلة لجذب الانتباه، وقد يلجأ إلى طريقة اختزال الزمن المباشرة، كأن يقول «ومرت أيام»، أما الحوار فيستخدم فى أجزاء محدودة، وكلها ملامح سرد الحكايات البسيطة الشفاهية.
ولكن بساطة السرد لا تخصم شيئا من رصيد عناصر الرواية، بالذات فيما يتعلق بالوصف، ورسم كل الشخصيات، وإدارة صراع يبدو بسيطا فى البداية، ثم نكتشف مدى عمقه وتشعبه، ومدى استفادته من عناصر الأسطورة الشعبية، ومدى توفيق الكاتب فى الجمع بين تفصيلات محلية بأدواتها وطقوسها ومفرداتها ومصطلحاتها، وأفكار إنسانية تؤرق الفرد المعاصر، سواء فى علاقته مع الطبيعة، أو مع الآخر، أو مع المجتمع الذى يعيش فيه، أو تأرجحه الدائم، بين موت وحياة، وبين اغتراب وانتماء.
سالم عبدالله بن جميل، الذى أطلقوا عليه اسم «القافر»، لقدرته على تتبع مصادر المياه تحت الأرض بأذنه الخارقة، هو بالتأكيد محور الرواية، ولكنه أيضا سيكون حيلة الكاتب لكى نكتشف عالم القرية وشخصياتها، ولذلك يصح أن تقرأ الرواية باعتبارها سيرة سالم، أو باعتبارها سيرة قريته وأهله ووطنه فى لحظة تاريخية معينة.
ظنى أن بذرة «تغريبة القافر» بدأت بشخصية جذابة، لطفل خارق، يمكنه أن يدل الناس على مواضع المياه فى باطن الأرض، أو ربما بدأت بمهنة «خدمة الأفلاج»، أى ذلك الرجل الذى يمتهن حفر القنوات لتجميع مياه الأمطار، أو المياه الجوفية، والذى يقوم أيضا بإزاحة الصخور عن القنوات المطمورة.
لكن هذه البذرة تطورت فى النص إلى رحلة طويلة تستقصى صراع الناس مع الطبيعة، ومقاومتهم للموت جفافا وعطشا، ثم كشفت الشخصية عن معان ثرية للغاية، بحيث تحتمل أن تمثل الإنسان نفسه فى مواجهة ظروفه القاسية، وفى مواجهة مجتمع يهمشه، ويسخر من اختلافه، وكأن حياة سالم تلخص مأزق الفرد المختلف، فى مواجهة الجماعة التقليدية.
هنا أول ثنائية أمسك بها الكاتب ولم يفلتها، بل إنه عمقها، إذ إن خدمة الأفلاج سيمارسها ثلاثة معا، هم: سالم وسلام وعبدالله بن جميل والد سالم، والثلاثة شخصيات مغتربة بامتياز، إما بسبب اختلافها فى القدرات، أو بدافع التهميش والفقر، أو نتيجة سلب المجتمع لميراثها، أو لحساسية الشخصيات الذاتية، وتفضيلها للعزلة وللطبيعة. إنهم أفراد مختلفون ومتميزون عن قرية لا تترك أحدا فى حاله، ولكن النص يحتفى بالمختلفين، فيجعلهم عنوانا للحياة، وللمغامرات المثمرة.
لن تتوقف الثنائيات فى كل اتجاه، فبعد المختلف فى مواجهة العادى والتقليدى، و«الفرد العارف» فى مواجهة «المجتمع الجاهل» والساخر، يحتفى النص بالمرأة فى عالم ذكورى، يغادر فيه الرجال، وقد لا يعودون.
ونساء الرواية فى منتهى القوة، صبورات ومدهشات، مثل مريم أم سالم، وكاذية أمه البديلة، وآسيا التى أرضعته، ونصرا زوجته الوفية، بل هن قوة الحياة فى مواجهة الموت. هن «الأرض» التى تتحرك عليها الأحداث، ولا يوجد فارق فى النص بين امرأة ترضع طفلا باللبن، وأرضا ترضع بشرا بالماء.
بين ماء يبعث الجسد، وحنان امرأة تبعث القلب.
وكم كان ذكيا أن يهتف سالم الطفل: «ماى ماى»، أى «ماء ماء»، ويهتف سلام الطفل: «موى موى»، أى «أمى أمى»، فيذكرنا الهتاف باتحاد عنصرى الحياة: الماء والأمومة.
ننتقل مع وصف تفصيلات اكتشاف المياه إلى ثنائية أخرى، نقلت الصراع إلى دائرة المجاز، أعنى بذلك ثنائية «الماء والصخر»، فاستمرار حجب الصخرة للماء من خلفها يعنى الموت، والصخرة هى رسول العدم فى النص، أما الماء فهو عنوان الحياة.
الصخرة مجاز لكل العوائق التى عانى منها سالم، لذلك فهو عندما يهشمها، إنما يهشم ظروفه وفقره ونبذه والسخرية منه، والظلم الذى وقع عليه، وتكرار تهشيم الصخور، وانفتاح الصراع بلا نهاية، بين مكتشف الأفلاج والمياه، وبين الصخور الصلبة، يحيلنا إلى صراع إنسانى وجودى، مفتوح ومتجدد، ولا ينتهى إلا بموت الإنسان نفسه.
خرجنا إذن من حدود الطقس والمهنة والمحلية، إلى رحابة الفكرة والمعنى، بل إن زهران القاسمى امتلك طموحا بأن يستلهم حكايات وأساطير شعبية، تغذى وتدعم أسطورة سالم، قاهر الصخر ومكتشف الماء، فكأنه أسطورة خرجت من قلب واقع أسطورى، وهو جدير حقا بمهنة اكتشاف الأفلاج، التى تقول الأساطير إن النبى سليمان، هو أول من شقها فى عمان.
لا تستطيع أيضا أن تصرف ذهنك عن تقاطعات بين معاناة سالم مع الحجر، ومجالدة سيزيف لصخرته، ومعاناة عجوز هيمنجواى لاصطياد سمكته، أو تقاطع بين حيلة نصرا فى انتظار سالم، وحيلة بينلوبى فى انتظار أوديسيوس، أو تقاطع دال بين سخرية قوم سالم منه، وهو ينبئهم بخبر الماء الذى يسمعه، وبين سخرية القبائل من أنبيائها، أو سخرية القوم من زرقاء اليمامة.
ربما بتر السارد بعض الخطوط فجأة، مثل حكاية آسيا مع زوجها، وربما كنا فى حاجة لشرح الكثير من المصطلحات فى هوامش خاصة، ولكن ظلت للنص، رغم ذلك، قوته ودلالاته الثرية.
أخيرا، بدا لى أن النهاية مفتوحة، ولكنها تحتمل أيضا أن تعبر عن خروج الميت من الحى، مثلما بدأ النص بخروج الحى من الميت.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات