ذكريات الحَجّ - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذكريات الحَجّ

نشر فى : الخميس 29 يونيو 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الخميس 29 يونيو 2023 - 8:15 م
لم يفارقني الإحساس بالندم قبل أن أحجّ عام ٢٠١٦ عندما كان يمّر عليّ يوم عرفة ولا أكون وسط الكتلة البيضاء بلون السحاب تبتهل وتلتمس شطب الذنوب. نعم كان الإحساس موجودًا ومتكررًا بشكلٍ سنوي لكني كنت أؤجل قرار الحجّ ربما لأني نفسيًا لم أكن قد نضجت لاتخاذ هذه الخطوة، وربما لأن مثلي مثل أناس كثيرين يريدون أن يكون حجّهم هو خاتمة عمرهم، وربما لأن مدخراتي قبل ذلك لم تكن تسمح بحجّ كريم وأنا لستُ من تلك الفئة من الناس التي تنفق عن يمين وشمال حتى إذا أتت للحجّ قتّرت. وتزامن ذلك كله مع أزمة كبيرة تعرّضتُ لها في عام ٢٠١٤ فتمنيتُ من كل قلبي لو أذهب إلى العالِم بالخفايا والمطلّع على الغيوب علّني أهدأ نَفسًا. وهكذا توكلتُ على الله واتخذتُ قرار الحجّ.
• • •
كل التفاصيل الصغيرة التي واكبَت الاستعداد لتلك الرحلة المهيبة مازالت في ذهني كأنها الأمس، وهي مازالت قادرة على استدرار دموعي بنفس السيولة والصدق معًا. قراءاتي الطويلة عن شعائر الحجّ وخوفي من أن أخطئ أو أقصّر فتبوظ الحجّة ويا عالِم إن كان سيُكتَب لي تكرارها أم لا، زياراتي المكوكية لمحّل رسمية الشهير لشراء ملابس الحجّ وقلقي من أن أنسى شيئًا أو أشتري حذاءً غير مريح، تحذيرات الحجّاج السابقين الطيبين التي أرادوا بها تبصرتي فإذا بها تربكني فأحدهم يقول يجوز والآخر يقول لا يجوز. وبينما الاستعدادات تجري على قدم وساق أبلغتني موظفة شركة السياحة بالخبر الصاعق التالي "مع الأسف يا مدام اسمك ليس ضمن الأسماء التي أتتها تأشيرات الحجّ، ومع ذلك فإننا سنحاول مرةً أخرى". معقول؟ وسوس لي الشيطان أن هذه علامة على أن الله لا يريد زيارتي لبيته الحرام فارتعَبت، كل مشاعر الخوف والقلق والارتباك كوم ومشاعر الرعب التي تملكتني في تلك اللحظة كوم آخر تمامًا، راغبةٌ أنا بشدّة ومستعدّة ومشتاقة لأن أكون في ضيافة الرحمن.. يا رب ساعدني. تشبثتُ بالشطر الأخير من الجملة الصاعقة "سنحاول مرةً أخرى"، ومع أن موظفة الشركة أخبرتني أنها ستبلغني بنفسها بأي تطوّر جديد، لم أتوان يوميًا عن السؤال "فيه أي جديد؟"، وعندما جاءني الردّ بعد نحو أسبوع "مبروك يا حاجّة تأشيرتك جت" أحسست بأن تلال الذنوب قد بدأت تتخلخل. أعطتني الشركة مع خبر التأشيرة لقب حاجّة، ومع علمي أن الطريق لم تزل طويلة حتى أنال اللقب، وعلى الرغم من اعتيادي ألا أفرح إلا بإنجاز حققته فعلًا ونجاح حصّلته بذراعي إلا أنني طرتُ من الفرح.. فعلًا طرت.
• • •
عندما رأيتُ حمام المدينة المنوّرة يتجمّع في دوائر بلا عدد غشتني سكينة عجيبة كنتُ أحتاج إليها جدًا، هذا اللون الأبيض المحيط بي من كل النواحي ابتداءً بثياب الحجاّج وحتى حمام المدينة جعلني أنفصل تمامًا عن عُمري كله وصرت ابنة هذا المكان وهذا الوقت وتلك المناسبة. حوّلتُ ماضيّ وتفكيري وتليفوني إلى وضع صامت وقررتُ أن أقلب الصفحة. صوت الآذان الرخيم والأنوار المتلألئة كقطع الألماظ والأرض المبردّة الحنيّنة على الأقدام واستعداد الناس.. كل الناس لسقايتك وإطعامك ومعاونتك تكرّس في الداخل شعورًا عميقًا بالطمأنينة. ومع أني لستُ من محبّي التمر إلا أنني استطعمتُ ثلاث تمرات امتدَت بها يد فتاة مثل القمر قلت لنفسي إنها غالبًا جاءت من إحدى جمهوريات وسط آسيا. طرَدتُ السياسة فورًا من ذاكرتي.. مالي أنا ومال أصلها وفصلها.. أنا هنا لأتعبّد لا لأشتغل بالسياسة. وظلّت هذه القاعدة الذهبية، أي عدم الاهتمام لا بالسياسة ولا بغير السياسة، تلازمني طوال رحلة الحجّ فلم أتخلّ عنها أبدًا حتى عندما انتقد لاحقًا إمام الحرم إيران وكان التوتّر السعودي-الإيراني قد بلغ ذروته وقطعَت السعودية علاقتها بإيران، لم أسمح لنفسي بالتوقَف عند ما قاله الإمام رغم الإغراء الشديد للتعليق والتحليل بحكم التخصص.. لاحظتُ ذلك، فقط لاحظتُ. بسرعة توافقتُ مع رفيقتي التي شاركتني في الغرفة، مع أنني قبل ذلك كنتُ أخشى من المبيت مع امرأة غريبة لأول مرة في حياتي، هل وارد أن المشرفين على الرحلة يكونون قد اختاروا لي توأمًا يشبهني في كل شئ تقريبًا؟ وارد جدًا، وهذا جزء من حسن الترتيب. ومنذ أن عرضَت عليّ أن تصنع لي فنجان قهوة على سبرتاية جاءت بها معها خصيصًا من القاهرة ونحن لم نفترق لا داخل الغرفة ولا خارجها، نذهب للصلاة معًا، نطوف ونلبّي ونرجم الشيطان معًا، نحضر جلسات الشيخ رمضان عبد المعّز للرّد على استفسارات الحجّاج معًا، نشتري التمر والسِبح والبخور وماء زمزم معًا، وعندما سقطتُ في غرفة الفندق في المدينة المنوّرة وأصبتُ بشرخ في قدمي كانت معي. كانت صحبةً رائعة. ولازلتُ حتى الآن أسأل على الحاجة منى وتسأل علىّ وتذكر إحدانا الأخرى بكل خير.
• • •
كان الناس الطيبون قد أوصوني قبل أن أشدّ الرحال لمكة المكرّمة أن أغمض عينيّ قبل أن أرى الكعبة حتى يكون انبهاري بجلالها تامًا، ومع أنني أديتُ العمرة من قبل ورأيت الكعبة المشرّفة، إلا أن أحدًا لم يكن قد أوصاني بذلك، ربما لأن الموقف يختلف.. بالتأكيد يختلف. ولذلك فعندما اقتربتُ من الكعبة نفّذت الوصية بالحرف الواحد، وحين فتحت عيني على الآخُر لم أدرِ بالضبط بماذا أبصرتُ الكعبة، لكن المؤكد أنه شئ يتجاوز حدود البصر.. هزّتني رعشة قوية. يقول أحمد شوقي: قد يهون العمرُ إلا ساعةً وتهون الأرض إلا موضعًا، وتلك هي الساعة التي يهون فيها العمر والأرض معًا.. تحوَلت الرعشة إلى ما يشبه الحُمى. ها هو الحجر الأسعد، وها هي الأستار السوداء المجللة بالذهب ترفرف على الكعبة التي بدت من فرط الزحام حولها كأنها محمولة على الأعناق، مَن يقرصني ليؤكد لي إنني لا أحلم. أديتُ طواف القدوم مع أسرة مصرية مقيمة في السعودية، رمتني إليها أمواج البشر فمشينا سويًا عن غير قصد.. ورحنا نفترق ثم نلتقي ونفترق من جديد لنلتقي. ترفع الأفواج عقيرتها بالدعاء فينضّم إليها مَن ينضّم من الطائفين، ومع أنني كنتُ قد تسلّحت بأدعيتي ولُقنتها تلقينًا، إلا أنها تبخرّتُ تمامًا فرحتُ أدعو بما يعّن لي. غريب جدًا عقل الإنسان، قفز إلى ذهني اسم أحمد البوّاب فدعوتُ له. ووسط المشاعر الفائرة كان هناك عن بُعد شاب يلتقط صورة سيلفي، ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد الذي يكسر هيبة المشهد، ففي أثناء السعي بين الصفا والمروة استوقف حاج شاب أحد الفنانين المشهورين لالتقاط صورة سيلفي، فاعتذر الفنان بذوق وأكمل سعيه. لم أعلّق ولم أنّم والأمر لا يعنيني.
• • •
وصلنا مخيّم الشركة في عرفة قبل آذان الفجر لنبلغ ذروة الحجّ ومنتهاه، فالحجّ عرفة. ساعات قليلة ما بين طلوع الشمس والزوال ونعود بعدها كما ولدَتنا أمهاتنا. الأمل في الغفران في قمته والرهبة أيضًا في قمتها.. يا رب ساعدني. طلب شيخنا من المدخنين ممازحًا أن يتوقفوا عن التدخين في هذا اليوم العظيم، فاستجاب أكثرهم، ثم اصطففنا من ورائه ليخطب فينا عن فضل يوم عرفة. أسلمنا له طوعًا قياد مشاعرنا وتوّحدنا معه تمامًا: يدعو فندعو، يبكي فنبكي، يلهث فنلهث، أولادنا يا رب، أهلنا يا رب، بلدنا يا رب، وهكذا حتى أخذَت الشمس تزحف صوب الغرب.. رسميًا فزنا باللقب. انشغلنا بجمع الجمرات المناسبة من المزدلفة، ومع أن شيخنا أوصانا مرارًا بألا ننشغل بالشكل عن الجوهر، فلقد نسينا وصيته ورحنا ندقّق في الجمرات لنتخيّر أوسطها. وبينما أجول ببصري في المكان والوقت ضاغط والشرطة تهدد بعدم السماح للأتوبيسات السياحية بغلق الطريق، وجدتُ منجمًا من الجمرات فناديت على صديقتي الحاجّة منى. جمعنا قدر ما استطعنا من جمرات في الكيس القماش الذي أعطته لنا الشركة، وتفشّى داخلنا شعور جميل بالرضا. لحقنا الأوتوبيس بالعافية بينما كان على وشك التحرّك من دوننا. ذهبنا لصلاة المغرب والعشاء جمع تقديم ثم توجهنا للفندق.
• • •
كانت درجة الحرارة تتجاوز الأربعين ونحن نسير في طريقنا لرمي الجمرة الكبرى، تطوّع رجال الأمن على جانبي الطريق برشّ وجوهنا بالماء وصبّ الماء فوق رءوسنا صبّا، فلم تكن تمضي بضع دقائق حتى يتبخّر الماء كأن لم نبتّل أبدًا. بعض الحجّاج استخدم الاسكوتر في التنقّل واعتلى شيخنا واحدًا ومن خلفه حاج مسّن، وفكّرت لبرهة في أن ألتقط صورة لهذا المشهد الطريف، ثم تراجعْتُ لأنني عاهدتُ نفسي ألا أستخدم التليفون إلا لطمأنة أسرتي. علا صوت التسبيح سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، حتى وقفنا وجهًا لوجه أمام رمز إبليس. سأل أحد الحجّاج: هل يشعر إبليس بجمراتنا؟ وكان هذا ثاني أعجب سؤال سمعته أثناء الرحلة، أما السؤال المذهل فكان من حاجّة في المدينة فاجأتني أثناء العشاء بسؤال: هل أنتِ مسلمة؟ وكان الردّ الطبيعي الساخر في غير مناسبة الحج هو النفي وأنني جاسوسة مدسوسة على المجموعة، لكنني تماسكتُ وهززتُ رأسي بالإيجاب. وفي المرّات التالية وكّلت من ينوب عني في رمي الجمرات. انتابتني موجة من البكاء لأنني لن أتمكن من أداء طواف الوداع بسبب إصابتي. ومسألة إصابتي هذه كادت هي الأخرى أن تخرجني عن شعوري، فعندما سقطتُ اتصلّت لي منى باستقبال الفندق ليرسل طبيبة/طبيبًا للكشف على قدمي فكان الردّ أنه لا أطباء يعودون المرضى في الغرف وأن عليّ التوجّه لمركز الطوارئ. لم أستطع الذهاب للمركز على مقعد متحرّك إلا في اليوم التالي، وهناك أخبروني أنه طالما مرّ عليّ يوم فلا مكان لي في الطوارئ وأنني يجب أن أذهب لمستشفى قُرب المدينة. ماذا؟ لو أني أستطيع الذهاب للمدينة ما كنتُ تخلّفت عن طواف الوداع. تمالكتُ أعصابي واستعذتُ بالتسبيح.. سبحان الله وبحمده.. سبحان الله العظيم. مرّ الموقف بسلام بفضل تدخّل حاجّة جدعة وعدنا للقاهرة.
• • •
بعد سبع سنوات مازلتُ أحتفظُ في ركن خاص بكل الأشياء الحبيبة التي رافقتني في رحلتي.. الشنطة التي سلّمتها لنا الشركة بكل محتوياتها.. كيس الجمرات.. البادچ الذي كنتُ أعلّقه، حتى الحذاء الأسود الذي لم يخذلني مازلت أحمل له مشاعر الامتنان. استمتعتُ بكل ثانية في رحلة العُمر، وعندما أرى الحجاج وهم يطوفون بالكعبة المشرّفة أرسل لهم مع المرسِلِين سلامًا.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات