التنمية العمرانيّة فى العالَم العربى - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 11:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التنمية العمرانيّة فى العالَم العربى

نشر فى : الأربعاء 26 أكتوبر 2022 - 8:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 أكتوبر 2022 - 8:30 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب نبيل على صالح بتاريخ 24 أكتوبر تناول فيه إهمال بعض الدول العربية للتنمية والتخطيط العمرانى السليم القائم على أسس علمية مما أدى إلى ظهور مشكلة العشوائيات السكنية.. نعرض من المقال ما يلى.
مَنْ ليسَ له وطن، لا حياة له، ولا يعرف حقيقة وجوده الحى والفاعل، وربّما لا يعيش حالة التوازن الروحى والعملى الحقيقى فى كلّ مفردات وجوده الخاصّ أو العامّ.. إنّه وطن الطفولة والشباب، وطن الأهل والأصدقاء، وطن الذكريات والعَيش المُشترَك والهويّة الإنسانيّة والتلاقى الحضارى. الوطن بهذه المعانى الواسعة والكبيرة، لا يستمرّ من دون محبّة وتعاون وتفاعل وتشارك حقيقى خصب ومُنتِج وبنّاء، وأيضا من دون تضحية وفداء وبذل للغالى والرخيص مُرتبط بغايات النهوض النبيلة. وهنا تُصبح محبّة الوطن (والدّفاع عنه وقت الشدّة والمِحن)، بعيدة عن كونها مجرّد شعارات للاستهلاك الفارغ والتضليل الاحتوائى، بل تكون سببا ومعيارا لبقاء الإنسان (المُواطن) مُعزّزا مكرَّما فى المكان الذى وُلد فيه ونشأ وعاش بين أهله وناسه وطبيعته وقيَمه. فهو كلّ شىء.. يرتبط فيه الفرد بماضيه وحاضره، ليرسم وجوده ومَعالِم مستقبله التى يؤسِّس لها فى حاضره. ولكن ــ من جهة أخرى ــ الوطن ليس معنويّاتٍ وقيَما نظريّة وشعاراتٍ وأغانٍ للإنشاد واستعادة الأمجاد وتفجُّر الرومانسيّات فقط، بل هو مساحة جغرافيّة للعيش الآمن المُستقرّ المُفترَض أنْ تتوافر فيه مقوّمات الحياة الإنسانيّة الصلبة، وعلى رأسها وجود الحيّز الجغرافى المكانى، أى السكن الصحّى المُناسب والمُلائم للعيش الهانئ والسعيد الذى هو بدَوره أساس لإنتاجيّة الإنسان وفعاليّته وحضوره فى عصره، وعطائه وتضحيته.
كان من أهمّ المشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة التى حدثت فى كثير من بلداننا العربيّة (التى انحازت للأدْلَجة والتأصيل العقدى الخلاصى بالذات، ومنعتْ تطوُّرَ مُجتمعاتنا فى اتّجاه مَواقع النهضة والتقدُّم العصرى)، عدم الاهتمام بموضوع أو قضيّة «التنمية العمرانيّة» الإسكانيّة، فكان هذا الانتشار الواسع والمُخيف للسكن المُخالِف أو ما يُسمّى بالسكن العشوائى، والذى ارتبط للأسف بسياساتٍ اقتصاديّة ديمغرافيّة وتنمويّة فاشلة وعديمة الجدوى اعتمدتها تلك النُّظم العربيّة.
وتُعرَّف العشوائيّات (أحياء ومناطق السكن العشوائى) بأنّها المبانى السكنيّة التى أُقيمتْ بشكلٍ غير لائق وغير صحّى، وبلا أى تخطيطٍ أو نظامٍ هندسى وقانونى، وخارج نطاق خطط التنمية السكّانيّة للحكومات نفسها، وغالبا ما افتقرت وتفتقر (تلك المناطق) إلى كثيرٍ من الخدمات والبنى التحتيّة الأساسيّة المُفترَض تنفيذها بشكلٍ عِلمى ومهنى مدروس ومخطَّط له، ومُلائم لحياة الإنسان وعَيشه المُنتج، وتطلّعه للازدهار والسعادة والرفاه المادّى. وحتّى لو تمّ تأسيس خدمات أساسيّة فيها (فى تلك الأحياء العشوائيّة) فإنّها قد لا تكون بالمستوى الفنّى والهندسى والصحّى المطلوب!.
وهذه الكتل العشوائيّة أو الأحياء السكنيّة المُخالِفة، انتشرت وتنتشر فى بعض بلداننا العربيّة، لتشكِّل بحجْمها ومساحتها النسبة الأكبر من أحياء المُدن (حتّى باتت تُعرف بمُدن الصفيح أو مُدن القاع).
• • •
بطبيعة الحال لم تنتشر مناطق المُخالفات العربيّة هكذا فجأة ومن دون سابق إنذار، بل هى امتدّت وتضخّمت فى مدىً زمنى غير قصير، على مَرأى السلطات والنُّخب والحكومات القائمة ومَسمعها، وتعاظَم مدُّها العشوائى المُخيف من دون أيّة محاولات جديّة من قِبَلِ هؤلاء (ومؤسّساتهم وهياكلهم الهندسيّة والإداريّة المَعنيّة) لمنْع انتشارها، ولتنظيمها وإسكان الناس فيها بصورةٍ حديثة وسليمة ومأمونة وصحيّة، شكلا ومضمونا.
طبعا، لا نريد التعمُّق فى فهْم الأسباب والدوافع التى مَنعتْ أو أَعاقت تطوير تلك المناطق العشوائيّة حتّى قبل أن تكبر وتمتدّ وتتوسّع وتتعقّد مُعالجتها وحلولها، ولكن باختصار، يأتى على رأس تلك الأسباب، هَيْمَنة الفساد وعدم وجود استراتيجيّات تنمويّة عِلميّة صحيّة وصحيحة وفعّالة! حيث تُرك الناس ــ وهُم بعشرات الملايين ــ لأقدارهم البائسة دونما أى تدخّلٍ نَوعى وفنّى وقانونى ملموس من قِبَلِ المؤسّسات الحكوميّة المعنيَّة لحلّ مشكلة البناء المُخالِف والسكن العشوائى. مع أنّه كان بالإمكان إيقاف تفشّى تلك العشوائيّات – البعيدة عن أدنى معايير السلامة الفنيّة والصحيّة والعمرانيّة ــ منذ عقود طويلة، قبل أن تمتدَّ وتتوسّع أفقيّا وعموديّا على حساب الأراضى الزراعيّة، بحيث أصبحت مُعالجتها صعبة وربّما غير مُمكنة حتّى فى المديات القريبة.
إنّ غياب أُسس التنمية الصحيحة المُتوازنة، وتغييب مقوّمات التخطيط العلمى الرصين، وتفشّى اقتصادات الظلّ غير المُنضبطة فى تلك البلدان، هى جملة عوامل اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة متداخلة، أسهمت بكليّتها فى خلْق بؤرِ التهميش التنموى والعمرانى المسبوق بالتهميش السياسى والعملى، ومبانيه وثقافته وواقعه.
والسكنُ العشوائى كسكنٍ رخيص وبديل عن السكن الحضرى (الذى هو سكن مُلائم للصحّة والسلامة والأمان)، لم يلجأ إليه الأفراد من ذوى الدخل المحدود، لو توافرت (أو تتوافر) بين أيديهم ظروف العمل المناسب ومآلات التنمية الصحيحة، المُفترض أن تتهيّأ لهم من قبل الحكومات المسئولة عن حياتهم ومعيشتهم وتهيئة مناخات عملهم الفاعل والمُنتج.
إنَّ الفقر المادّى وانعدام القدرة والكفاية الاقتصاديّة على حيازة رأس المال الكافى للحصول على السكن الصحّى المناسب، هو الذى يدفع الإنسان (الفقير أو المفقّر) فى اتّجاه البناء العشوائى أو البحث عن سكنٍ له ضمن تلك الأحياء العشوائيّة التى نَمت وكبرت وتضخّمت حتّى باتت مشكلة تنمويّة وعمرانيّة واقتصاديّة مُكلفة للغاية؛ حيث جاء نموّها وتضخّمها فى غفلة (مقصودة بلا شكّ) من المسئولين المعنيّين المُستلمين لزمام الأمور.
وبطبيعة الحال لا يُمكن توجيه اللَّوم أو تحميل المسئوليّات ــ عن نموّ تلك المناطق ــ للناس أنفسهم، من الفقراء والمهمَّشين. وأى تفسير يُحاول لَوم الفقراء وتحميلهم مسئوليّة ظهور مشكلة السكن العشوائى، وما يرافقها من أمراضٍ اجتماعيّةٍ أخرى، هو تفسيرٌ مَرَضى يتجاهل وينكر ــ عن سابق قصد ــ الأسباب الجوهريّة الأخرى الكامنة فى تلك السياسات الاقتصاديّة والخطط التنمويّة التى اتُّبعت فى تلك البلدان، والتى كانت بمجملها عقيمة غير مُنتجة كما قلنا سابقا.
إنّ القدرات والطاقات والخبرات وضرورة خلْق فُرص العمل، وتطوير الخبرات ونوعيّتها، كلّها عوامل مهمّة فى تحسين شروط الإسكان والعمران المادّى وحتّى التنموى والعقلى.
• • •
طبعا للأسف، لم تُبالِ معظم الحكومات المعنيَّة بأمر تنظيم عمران بلدانها، بالعكس فقد أسهمت ــ نتيجة فساد نُخبها ومؤسّساتها المنخورة حتّى العظم بالمحسوبيّات والاستزلام والزبائنيّة الاقتصاديّة والسياسيّة ــ فى امتداد واستشراء تلك العشوائيّات لغاياتٍ تتّصل بالوظيفة «الاجتماعيّة ــ السياسيّة« لتلك العشوائيّات كأنساقٍ معقّدة داخلة ضمن النظام الوظيفى العامّ الذى تعتمده تلك السلطات الحاكمة، بحيث يُمكن القول إنّ ذلك الامتداد العشوائى كان عبارة عن سياسات متعمّدة من طرف نُخب الحُكم لإبقاء المُجتمعات رهْن حاجاتها الأولى، حتّى يسهل إخضاعها واحتواؤها، ومن ثمّ استغلالها (واستخدامها وتجييرها) فى أغراضهم الأخرى.
طبعا، العشوائيّات المكانيّة هى جزء من عشوائيّات أكبر وأكثر خطورة، ولو لم تكُن قائمة وموجودة ما وصلنا إلى الأحياء العشوائيّة، ونعنى بها، عشوائيّة الفكر والعقل والتفكير، والامتناع عن التصرُّف بمسئوليّة وعلميّة وعقلانيّة من قِبَلِ القائمين بأمر تلك المُجتمعات.. فاستشراء الفساد، وسياسة شراء الذّمم والولاءات، وتمكين الأزلام، وإنفاق الأموال الطائلة على عسْكَرة المُجتمعات، وتسليح الجيوش وبناء الأجهزة الوصائيّة التى تحبس أنفاس الناس، وتمنعها بالقوّة والعنف من الوصول لحقوقها الجوهريّة.. كلّه أَسْهَمَ وبقوّة فى استدامة تلك الأزمات واستمرارها، وعلى رأسها أزمة بقاء مُجتمعاتنا مرهونة لتخلُّفها وإعاقتها التنمويّة والحضاريّة، بما منعها من البناء والاستنهاض والتقدُّم الحقيقى المدنى والعمرانى والحضارى.
وما لم تتغيّر بنية وماهيّة تكوين تلك الدول المؤدلَجة القائمة، فى اتّجاه بناء دول ديموقراطيّة حديثة، لن تتحسّن شئون مُجتمعاتها وأفرادها على أيّ صعيد من الأصعدة، حيث إنّ طبيعة الدول الحديثة اليوم باتت دولَ خدمات لا دول فكرٍ متحجّر وأيديولوجيّاتٍ وهويّاتٍ مُغلقة.. دول تُشرف وتخطِّط ولا تُهيمِن ولا تُسيطر على المجال العامّ.. دول تُتيح وتُفْسح وتُهيّئ الأجواء والبنى، دول لا تتسلّط ولا تنحاز ولا تتملّك. فمقتل الدولة (أى دولة) يأتى عندما تتحوّل إلى مجرّد مُضارِب سياسى أو اقتصادى أو مالى... إلخ.
لقد ضاعتْ كثيرٌ من خطط التنمية الاقتصاديّة والعمرانيّة فى تلك البلدان ــ التى ضَربتها واجتاحتها العشوائيّات (التفكيريّة والعمرانيّة)، والمُفترض أن تبنى (أى تلك الخطط) مَواقِع قويّة للازدهار والتطوُّر الحقيقى ــ عندما ضاعت أو تمّ تضييع حقوق الناس. وما لم تَعُد تلك الحقوق وتتفعّل، لن تُستعاد نهضة المُجتمعات العمرانيّة والتنمويّة.
النص الأصلى

التعليقات