جاء فرعون ليستحم - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 11:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جاء فرعون ليستحم

نشر فى : الأحد 26 أبريل 2015 - 9:35 ص | آخر تحديث : الأحد 26 أبريل 2015 - 10:55 ص

المدخل لا يسمح سوى بالدخول زحفا. ملمس الأحجار الصلبة يقودك فى العتمة إلى الكهوف الساخنة التى تتدرج حرارتها لتصل إلى الذروة عند بلوغ عين الماء الكبريتية، وهى تصب مياهها فى البحر عند المدخل الثانى على طرف الجبل، فيظهر دخان البخر من بعيد. يقول البعض إن درجة حرارة المياه تصل إلى نحو 70 درجة مئوية، فى حين تشير قياسات أخرى إلى 92 درجة، مؤكدة أن حمام فرعون هو الأكثر سخونة بين العيون والينابيع والآبار البالغ عددها 1450 والمنتشرة فى أماكن مختلفة داخل مصر.

على بعد نحو 110 كم من نفق الشهيد أحمد حمدى، بالقرب من مدينة أبوزنيمة بمحافظة جنوب سيناء، يقع جبل حمام فرعون. تتساءل ما الذى جاء به هنا ليستحم؟ وهل غرقت فعلاً جيوشه عندما لاحق موسى عليه السلام، فشق الأخير البحر بعصاه ونجا بقومه فى حين غرق حاكم مصر وجنوده عند هذه النقطة كما تقول الرواية؟ كل مكان يصنع أسطورته، ثم تتداولها الألسنة، فنشعر هنا مثلاً أننا فى حضرة فرعون ومن تلاه من الرهبان الذين احتموا بكهوف الحمام فى قلب الجبل هربا من اضطهاد الرومان. الظلام دامس، لا تعرف أين تطأ قدمك إلا إذا أشعلت بطارية تليفونك المحمول فتكتشف أوراق عبوات الشيبس الفارغة وزجاجات المياه البلاستيكية وسواها من آثار المعاصرين.. أرادوا بدورهم أن يبرهنوا على أنهم وصلوا إلى داخل الجبل رغم ارتفاع الحرارة تدريجيا، وصعوبة التنفس أحيانا بالقرب من عين المياه الطبيعية التى تحتوى على عناصر الكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والسيلكون والأملاح المذابة. المغامرون الجدد استخدموا «سونا» فرعون الجبلية الفريدة من نوعها والتى إذا وجدت فى أى مكان آخر من العالم لكان مصيرها قطعا مختلفا، تسويقيا وسياحيا وصحيا وترفيهيا واستثماريا، بدلاً من أن تظل كهوفا للظلام يختنق فيها أحيانا الزوار الأكثر تهورا، قبل أن يحالفهم الحظ، ويقفزوا إلى مياه البحر الباردة بعد حرارة الجبل.

•••

عندما نذكر الفراعنة يكون الحديث بالأحرى حول الأهرامات ومقابر الملكات والملوك ومعابد الآلهة التى بنيت لتبقى، لكن لم تكن هذه المبانى والصروح ممكنة بالاعتماد فقط على خصوبة وثراء وثقافة وادى النيل، فقد اهتم حكام مصر القديمة أيضا بالهوامش. وليس من قبيل المصادفة أن توجد حمامات لكيلوبترا فى بقاع مختلفة من الواحات ناحية الحدود الغربية فيذيع صيت خليط لبن الحمير وأوراق الورد الذى كانت تستخدمه لجمالها والحفاظ على بشرتها، ولا هى مصادفة أن يقيم فرعون «سونا» داخل الجبل فى سيناء.. جاء ليستحم، نعم.. لكن كان يعمل أيضا حتى وصل إلى أطراف البلاد، إذ كانت البعثات التعدينية تتوافد بشكل دورى خاصة على موقعى أبوزنيمة وأبورديس. استخرج النحاس لصناعة الأسلحة والأدوات المختلفة من جنوب غرب سيناء، كما استخرج الفيروز والعقيق الأحمر والجمست أو «الأمتسيت». وبطول طريق حورس الممتد من القنطرة إلى رفح، مرورا بالعريش، على هذا الطريق الشمالى القديم الذى كان يصل مصر بفلسطين، شيد على مر العصور نحو 11 حصنا ليحتمى من الغزاة وينوع الخطوط الدفاعية. طريق حربى، بل أيضا طريق للتجارة يربط مصر بآسيا.. عثر فيه على آثار لرمسيس الثانى وتحتمس الثانى وغيرهم من الحكام حتى العصر البطلمى. الأختام والنقوش والقلاع وأفران صهر المعادن التى وجدت تدل على الكثير والكثير. وبالطبع ظهرت موانى البحر الأحمر مثل وادى الجرف والعين السخنة لتخدم مراكز التعدين.

•••

اللافت هنا للنظر هو موقع اكتشف قبل سنوات فى العين السخنة، على الضفة الشرقية لخليج السويس، خلال حفريات بدأت عام 2001، واتضح أنه كان مركزا للإمدادات اللوجستية والتموين. اختار الفراعنة هذا المكان تحديدا ليكون همزة الوصل مع سيناء، فالمركز يقع على الطريق الأقصر الذى يصل بين العاصمة ممفيس والبحر الأحمر، خزنوا به المراكب والأطعمة وأقاموا أفران المعادن، ومنه توجهوا صوب سيناء. بعد نحو ست سنوات من التنقيب، عثر على ما تبقى من مراكب كانت تستخدم للذهاب إلى سيناء، أشجار الأرز والبلوط التى صنعت منها كانت تستورد من لبنان وسوريا، لذا وجب الحفاظ عليها وتخزينها لحين موعد استخدامها القادم. القمح والشعير كان يؤتى بهما من وادى النيل ليخزنا فى أوانى فخارية بهدف تحضير الخبز. أما أفران السيراميك التى وجدت ويصل عددها إلى خمسين فهى توضح كيف كان يتم صهر النحاس وكيف كان يستخرج منه حجر الدهنج الأخضر ليستخدم فى الزينة.. فهموا أسرار المكان وعرفوا كيف يوظفون كل بقعة وصلوا إليها، حتى عندما أرادوا الاسترخاء فى قلب الجبل والاستحمام، أما الأحفاد فالفهم لديهم يكون مستعصيا فى كثير من الأحيان أو متأخرا بعض الشىء.

التعليقات