«هل يدخل الصحفيون الجنة؟».. شهادة الأستاذ على عصرنا - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 6:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«هل يدخل الصحفيون الجنة؟».. شهادة الأستاذ على عصرنا

نشر فى : السبت 26 فبراير 2022 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 26 فبراير 2022 - 9:30 م

 

أعادنى هذا الكتاب، الذى أعتبره من أمتع كتب 2022، إلى بهجة قراءة مقالات كبار الصحفيين الأدباء الذين كانوا سببا فى شغفنا بالصحافة وبالكتابة، وبالقراءة عموما.
كتابة رشيقة العبارة، لامعة الأفكار، حرة ومكثفة، فيها من المعلومات والقضايا، بقدر ما فيها من الأسلوب المتدفق البديع، تجمع بين الرأى الصريح، والمعنى المتضمن بين السطور، كل فصل رحلة يصحبك فيها كاتب ذكى، يقظ، يجعلك تتوقف أمام كل ما كنت تمر به مرورا عابرا.
هذا الكتاب وعنوانه المدهش «هل يدخل الصحفيون الجنة؟»، والصادر عن دار ريشة، يشهد به الكاتب الصحفى الكبير محمد العزبى على زمنه، وزمننا أيضا، ويقع فى تلك المنطقة الفريدة بين الصحافة والأدب.
الكتابة هنا ليست تقريرية مباشرة، ولكنها سرد ممتع وشيق، لا يخلو من السخرية فى أحيانٍ كثيرة، الكاتب يقول كل شىء، ولكن بأدوات الأديب والفنان، لا استطراد ولا ترهل، ولكنها حكايات ممتعة وشيقة، هكذا أحببنا القراءة عبر الصحافة، وهكذا أعادها لنا العزبى حية ومؤثرة.
نظلم الكتاب إذا قلنا إنه يتحدث فقط عن أحوال الصحافة والصحف والصحفيين، الأصح أنه عن أحوال البلد والدنيا والعالم خلال سنوات العزبى الطويلة والثرية فى بلاط صاحبة الجلالة، قد اختار أن يتأمل بعيون مصرية وقائع وأحداث وشخصيات، خاصة وعامة.
يأخذك بصنعةِ فنٍ إلى ظواهر لها العجب، وإلى تفصيلات ونماذج بشرية أعجب، وبينما يشكو أحيانا من نظرٍ ضعيف، ومن عينٍ أرهقتها القراءة، وبينما يوهمنا بأن «العتب على النظر»، فإن الكتابَ يشهد بأن النظر حاد، وبأن الذهن حاضر، وبأن «الشوف الحقيقى ليس هو النظر.. وإنما أن تكون لك وجهة نظر»، كما قال لينين الرملى فى مسرحيته العظيمة.
هناك دلالات مهمة للغاية يقدمها لنا هذا الكتاب، أولها، وأهمها، أن الصحافة والكتابة ليست وظيفة، وإنما هى الحياة بالنسبة لمن عرفها، فإذا أراد الكاتب أن يتركها، لن تتركه. وثانيها: أن العمر يزيد الكاتب والصحفى خبرة وقيمة وقوة، بل ويجعل من كتابته شهادة خطيرة وفريدة، إنه ليس مثل لاعب الكرة الذى يتراجع مستواه إذا تقدم فى السن، ولكن الكاتب يبدو مثل المشخصاتى القدير الذى يزيده العمر نضوجا وقدرة على تقديم أدوارٍ كبيرة.
الدلالة الثالثة: هى أن الصحافة مرآة حقيقية للمجتمع، إنها ليست أوراقا وأحبارا وكلماتٍ، وإنما هى المجتمع نفسه وقد صار أمامك بكل إيجابياته وسلبياته.
ربما يصح أيضا أن نعتبرها التاريخ اليومى فى تفاصيله، ومن هنا تأتى خطورة أن يصيب المهنة الضعف والذبول، أو أن تتحول من مرآة تعكس الحقيقة، وتعبِر عن الناس، إلى أداة للكذب أو للتزييف.
يحكى محمد العزبى عن تأميم الصحافة، أو تنظيمها كما قيل، يتحدث عن مبررات شكلية لهذا القرار، انتقد عبدالناصر اهتمام الصحف وقتها بقصة سيدة مجتمع اسمها تاتا زكى، هربت من زوجها، وأخذت صحف «أخبار اليوم» تتابع أخبارها يوميا، قال عبدالناصر إن الصحافة يجب أن تهتم بالقرية المصرية، وكفر البطيخ، ضرب المثل عشوائيا بقريةٍ مصرية، ولكن الصحف سرعان من بعثت مندوبيها لكى تصور الناس فى كفر البطيخ، وافتتح المسرح القومى عروضه بمسرحية تحمل اسم كفر البطيخ!
تبدو الأزمة فى علاقة الصحفى بالسلطة، وفى الجهة التى تملك الصحف، ثم صارت الصحف الورقية نفسها فى مهب الريح، اختفت صحف ومجلات ورقية عالمية، فحق للعزبى أن يقلق على مصير صاحبة الجلالة.
يمتلئ الكتاب بالحكايات الشيقة والمثيرة للشجن وللضحك أحيانا، وهناك أيضا حكايات مؤلمة قديمة وحديثة: صحفيون عوقبوا بالفصل، مثل صلاح عيسى، ورياض سيف النصر، موسى صبرى ومنعه من الكتابة، بعد أن قام بتغطية جلسات محاكمة المسئولين عن هزيمة 67، وبعد أن سجل تفاصيل المحاكمة، أنهى مقاله بعبارة «وما خفى كان أعظم»، صحفيون كبار نسيناهم مثل مصطفى بهجب بدوى، وشخصيات أخرى سياسية كانت يوما صاحبة مواقف لا تنسى، مثل علوى حافظ، وممتاز نصار، ومحمود القاضى، وأبو العز الحريرى.
يتوقف العزبى عند فترة اعتقاله فى الستينيات مع مجموعة من أهم كتَاب ومثقفى مصر مثل عبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب، كان العزبى «مسئول الفجل» كما وصفه الأبنودي؛ أى مندوب المعتقلين لاستلام نصيبهم اليومى من الفجل، الذى لم يكن يزيد عن نصف فجلة!
الصحفى الكبير محمد العزبى الذى قابل الجنرال جياب فى سنوات حرب فيتنام، والذى كان فى إندونيسيا أثناء الانقلاب على سوكارنو، يشعر بالغيرة على مهنته، ويمكنه أن ينطلق بذكاء من واقعة موت زرافة فى حديقة الحيوان، إلى مناقشة أوجاع أخرى، فيقول:
«هل سمع الزراف عن حال الشباب والبطالة فاكتأَب؟!»، والحكاية الساخرة عن الفتاة التى تخرجت فى الجامعة، ولم تجد عملا، ولم يكن أمامها سوى اقتراحٍ مجنون بأن تلتحق بحديقة الحيوان، ترتدى لباس أنثى الأسد، وتدخل القفص وهى ورزقها، وذات مساء، انصرف الحارس، وقد نسى الباب الموصل بينها وبين القفص المجاور مفتوحا، أصابها الرعب، خصوصا عندما دخل عليها الأسد يتهادى، باللغة العربية «يهرهر»، فوجئت وهو يقترب منها بهمس: «ما تخافيش.. أنا أحمد من جامعة عين شمس»!
يكتب العزبى عن محمد حسنين هيكل، وأحمد بهاء الدين، عن أوراق مصطفى أمين التى احتفظت بها الجامعة الأمريكية، ويكتب مقالا جميلا عن علاقته بالفنان عادل إمام.
عندما تحضر الصحافة والكتابة يحضر الوطن بكل تاريخه، وبحاضره ومستقبله أيضا.
يمكن اعتبار الكتاب بذلك تحية للمهنة ورجالها ورساميها ومصوريها.
ويمكنك أخيرا أن تجيب عن سؤال العنوان، بعد أن عرفتَ وقرأتَ واستمتعتَ:
«هل يدخل الصحفيون الجنة؟»
الإجابة: نعم.. إذا كانوا فى وعى ومسئولية واحتراف ورشاقة كتابة محمد العزبى.
أسعد الله كلَ أوقاتك يا أستاذ.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات